من المعلوم أن أي تحليل سياسي، يجب أن يكون مبنيا على المنطق والواقع، وتؤسسه تجربة شاملة لا تكون محصورة في الزمان أو المكان. وهنا يشير الكاتب علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري أن: ''الإنسان كلما ازداد تجوالا في الآفاق واطلاعا على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عن إطاره الفكري الذي نشأ فيه واستطاع أن يحرر تفكيره من القيود، وكلما كان الإنسان أكثر انعزالا كان أكثر تعصبا وأضيق ذهنا''، ومما لا يدع مجالا للشك أن المنطق في مقولة على الوردي تنطبق في بعديها العام والخاص على النظام الجزائري وقرار قطع العلاقات مع المملكة المغربية الشريفة.
في الشق الأول وفيما يتعلق بمن يحكم جزائري، لابد من استرجاع الأحداث التاريخية لفهم حدود العلاقة بين المؤسسة الرئاسية والعسكرية فالانقلاب العسكري يونيو 1965 ضد أحمد بن بلة سمي بتصحيح الثورة، وحينما أجبر الشاذلي بن جديد سنة 1992 للتخلي عن الحكم سمي الانقلاب بالاستقالة، وفي سنة 1998 تم الضغط على اليامين زروال وقدم استقالته عن رئاسة الجمهورية الجزائرية وسُمّي ذلك تقليصاً للولاية الرئاسية.
وفيما يخص المشهد الحزبي بالجزائر فلا يغدو ان يكون شكليا إذ أن معظم الأحزاب موالية للسلطة، وبالتالي أقصى ما يمكن أن تعرف به أنها صنيعة وربيبة الحزب الحاكم ويؤكد هذا الاعتبار أنه حين فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بمعظم مقاعد البرلمان انقلب الجيش عليها وبالتالي نحن أمام حكم عسكري لا يمثل الشعب الجزائري ولا صناديق الاقتراع. وفي هذا الإطار نجد المركز الدولي مالكوم كير للأبحاث والدراسات يعلق حول الانتخابات الرئاسية الجزائرية بالقول " كانت نسبة المشاركة في الاستفتاء متدنية جدا 23.7 في المئة، وهدف النظام المعلَن كان استخدام الاستفتاء كخطوة نحو بناء "جزائر جديدة"، ما يعني أنه رأى في الاستفتاء سبيلاً للخروج من المأزق مع الحراك''.
هكذا يمكن أن نفهم لماذا فسرت وزارة الخارجية المغربية القرار الجزائري بقطع العلاقات الديبلوماسية بالمتوقع وأنه يرمي إلى تصريف الأزمة الداخلية نحو دول الجوار على وجه الخصوص المغرب.
نجد أيضا ان الدستور الجزائري يورد في ديباجته أنه استجاب لـ"إرادة الشعب المعبر عنها من خلال الحراك المبارك الأصيل الذي "وضع حدّاً لأخطاء سابقة" أنظر الدستور الجزائري. يمكن أن نفهم من ديباجة الدستور الجزائري أنه بمثابة حل أوجده النظام للمضي قدماً، وإتاحة المجال أمام ظهور جزائر جديدة وإنهاء الحراك، غير أن الواقع يفنذ هذا التوجه إذ نطالع بشكل دوري الحراك الجزائري الذي لا يزال مستمرا بل تواكبه عنتريات حكام الجزائر ولا زال الصحفيون والمدوّنون والناشطون والمواطنون العاديون يُزَجّون في السجون، وتُواصل السلطات شنّ حملات اعتقال تعسّفية وحظر الوصول إلى مواقع إخبارية إلكترونية مثل RadioM، و Maghreb Emergeant، وInterlignes، وTout sur l’Algérie.
وحتى أن مبادرة الإصلاح العربي نشرت ورقة أعدها الدكتور ناصر جابي، حول الدستور الجزائري واعتبره ثرثارا يتحدث عن حقوق لا يضمنها وأنها تبقى حقوق نظرية مجردة، وهو نفس الاتجاه الذي عبرت عنه المعارضة السياسية نفسها في الجزائر بالقول: إن التعديل الدستوري "لا حدث".
وفيما يخص قرار الجزائر بقطع علاقاتها الديبلوماسية مع المغرب فقد أشرنا في مقالاتنا السابقة أن الجارة الشرقية ستعمل على تصريف أزمتها الداخلية نحو الخارج وبذلك تسعى أن يكون المغرب الشماعة التي تتعلق فيها فشل سياستها الداخلية، فالحراك والوضع الاقتصادي المتردي هي نتائج حتمية في دولة تمر بتحولات عميقة حيث تواجه الجزائر أكثر أزماتها السياسية والاقتصادية تعقيدًا منذ نيلها الاستقلال عام 1962، وحتى أن توقعات صندوق النقد الدولي تحمل اشارات تنبيهية إذ تشير أن الدينار الجزائري يفقد قيمته وهو ما يعني أن المواد الأساسية المستوردة ستصبح أعلى ثمنا مما سيرفع من وثيرة الاضطرابات الاقتصادية وسيوسع الهوة الاجتماعية.
وأمام هذا الوضع بالجارة الشرقية المنذر بانفجار اجتماعي في ظل فشل الجنيرالات القابضين على الحكم يبقى الحل الأنسب لهم خلق بؤرة خارجية للتوتر وذلك من أجل ضبط الشارع الجزائري والحد من أي أفق للتغيير حيث من المحتمل أن نعرف في الأيام أو الشهور المقبل توزيع تهم للعديد من النشطاء يدعون فيها التخابر مع المغرب ومحاولة زعزعة استقرار الجزائر، وما يؤكد فرضية هذا الاحتمال إتهام المغرب بضلوعه في حرائق غابات تيزي وزو في حين أن السبب هو تركيز النظام الجزائري على شراء أسلحة مهترئة وضخ الملايين من دولارات البترول في مناورات عسكرية بالذخيرة الحية في مقابل عدم التفكير في شراء طائرات كاندير للحفاظ على سلامة مواطن مقهور بالعمق الجزائري.
وختاما نرى أن الانسب قوله في قرار النظام الجزائري وقطع العلاقات الديبلوماسية المقطوعة أصلا مع المغرب هو ما اتجه إلى قوله ميكيافيلي في كتابه الامير حيث يورد أنه إذا أعطاك نجاحك المزيد من المسؤولية فهذا عادة ما يعني سحق طموحات الآخرين وهذا ما يسبب سخطهم الذي يتطلب منك القضاء عليه بقول الحقيقة عنهم رفعت الأقلام وجفت الصحف.
ذ/الحسين بكار السباعي، محام وباحث في الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان.