تغليف زيارة الرئيس الموريتاني إلى المغرب بطابع الخصوصية، لا يجب أن يحول دون الكشف عن خلفياتها الحقيقة، إذ لا يستبعد أن يكون ولد الغزواني قد حمل إلى الملك محمد السادس رسالة استعطاف من عبد المجيد تبون في شأن إمكانية الاضطلاع بدور الوساطة قصد تصفير منسوب التوتر المحتدم بين المغرب والجزائر، لا سيما أمام انهيار التحالف الإيراني الروسي في مقابل تقدم مشروعي المبادرة الأطلسية وأنبوب الغاز نيجيريا – المغرب المدعومين من أمريكا، وأوربا الغربية، ودول الخليج.
إن استيعاب الدلالات الثاوية وراء زيارة الرئيس الموريتاني إلى المغرب - أياما قليلة بعد لقائه الخاطف بالرئيس تبون في نواكشوط - لا يمكنه أن يتحقّق دون استدعاء المتغيرات الجيوستراتيجية المتسارعة عالميا، والتي وجد قصر المرادية نفسه أمامها دون سابق استعداد.
الواقع أننا اليوم إزاء مخاض ميلاد نظام عالمي جديد. نظام قائم على قاعدةِ القطبية الأحادية بدل القطبية الثنائية الموروثة عن الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. الأكيد أن المملكة المغربية، ومنذ استقلالها سنة 1956،اختارت الاصطفاف مع المعسكر الغربي مقابل اصطفاف نظام الجنرالات في الجزائر مع المعسكر الشرقي. غير أن مياه كثيرة جرت تحت الجسر منذ سقوط جدار برلين سنة 1989، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991وفي النتيجة يمكننا الجزم بأن العقل السياسي “الملكي” المغربي حينها قد تمكن باقتدار من تقدير واستشراف ملامح المستقبل السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما عجزت الجزائر العسكرية عن ذلك، وهو ما أتت زيارة الرئيس ولد الغزواني لتكشف عنه.
خلفيات زيارة الرئيس ولد الغزواني وقراءات لما حصل
بداية لا يمكننا الحديث عن زيارة الرئيس الموريتاني إلى المغرب إلا بعد موقعة هذه الزيارة تراتبيا على خارطة الزيارات المختلفة لقادة الدول. ففي العرف الدبلوماسي ثمة ثلاثة أنواع من الزيارات يمكن تلخيصها أولا في زيارة الدولة التي لا تتم إلا بدعوة رسمية بين رؤساء الدول، مع ما يواكبها من مراسم بروتوكولية معقدة. ثم زيارة العمل التي تأتي دون الأولى، من حيث صرامة البروتوكول لتركز بالأساس على مناقشة موضوعات محددة. فالزيارة الخاصة: التي تكون عادة لأسباب شخصية وغير رسمية. وبالعودة إلى البلاغ الذي مهره الوزير المكلف بديوان رئيس الجمهورية الموريتانية الناني ولد اشروقه، نجده يتحدث عن “زيارة خاصة“، وهو المعطى ذاته الذي لم ينفه بلاغ الديوان الملكي بالمغرب. غير أن الحيثيات التي رافقت هذه الزيارة، مع ما تضمنه منطوق بلاغ الديوان الملكي نفسه يكشف لنا عن تجاوز هذه الزيارة لطابعها الخاص إلى مستوى الزيارة الرسمية “زيارة العمل“.. مما يعني أن هناك جدول أعمال مسبق لهذه الزيارة وإن لم يتم الكشف عنه.
بلاغ الديوان الملكي كان واضحا حين أكد على أن لقاء الملك بالرئيس الموريتاني قد تمخض عنه أمران أساسيان، هما: انخراط موريتانيا في “المبادرات الملكية بإفريقيا، خاصة أنبوب الغاز الإفريقي - الأطلسي، ومبادرة تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي“. وبحسب المعلومات المتوفرة لدينا فإن ولد الغزواني قد التمس بمجرد حلوله بالمغرب اللقاء بالملك محمد السادس، وهو ما تأتى له بالفعل رغم وجود جلالته في وضعية استشفاء ونقاهة، مما يعني أن زيارة ولد الغزواني كانت ذات حمولة سياسية - دبلوماسية مسبقة أكثر من كونها محض زيارة خاصة بقصد الاطمئنان على الحالة الصحية لحرمه. وحتى على هذا المستوى الأخير، فإن اختيار السيدة الأولى في موريتانيا “مريم بنت الداه“ إجراء عملية جراحية بالمستشفى العسكري بالرباط يحمل أكثر من إشارة سياسية، لا سيما وأن إمكانات التطبيب بالمستشفيات الغربية ليست بالشيء المستعصي على سيدة القصر الرمادي في نواكشوط، وهو ما تعززه قرائن وشواهد أخرى..
أياما قليلة قبل حلول الرئيس محمد الشيخ ولد الغزواني بالقصر الملكي في حي الحبوس بالدار البيضاء، شهدت نواكشوط تنظيم المؤتمر القاري حول التعليم والشباب والتشغيل (تحديدا يوم 10 دجنبر 2024)، ورغم الطابع العادي لهذا المؤتمر الذي لم يحضره من رؤساء الدول غير الرئيس السنغالي “باسيرو ديوماي فاي”، والرئيس الرواندي “بول كاغامي”، لاحظنا كيف طار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى نواكشوط للقيام بزيارة خاطفة إلى موريتانيا، وهو ما قابلته دولة شنقيط بإرسال رئيس البرلمان الموريتاني “محمد ولد مكت” إلى الرباط على رأس وفد برلماني...
موقف تبون وزيارات الغزواني
بكل تأكيد، فالراجح لدينا أن زيارة الرئيس ولد الغزواني إلى المغرب محكومة بسياقات موريتانية محضة، ولكن أيضا بسياقات جيوسياسية إقليمية ودولية. بالنسبة إلى العلاقة التي نفترض وجودها بين هذه الزيارة وزيارة تبون إلى نواكشوط. لا بد من التذكير أن زيارة تبون هي الأولى من نوعها لرئيس جزائري منذ 37 سنة، أي منذ زيارة الشادلي بن جدبد لنواذيبو سنة 1987، ذلك رغم أن الرئيس ولد الغزواني قد أجرى لوحده أكثر من 5 زيارات رسمية إلى الجزائر منذ انتخابه رئيسا لموريتانيا سنة 2019. صحيح أن زيارات رؤساء الدول للبلدان التي يختارونها أمر سيادي، لكن المثير في زيارة تبون لنواكشوط أنها أتت يوما واحدا فقط بعد سقوط حليفه الديكتاتور بشار الأسد الذي ظل نظامه يسانده جهرا حتى لحظة فراره نحو روسيا. وهنا لا بد من التأكيد بأن النظام العسكري في الجزائر قد بدأ يدرك بأن الدور قادم عليه لا محالة بوصفه آخر نظام عسكري توتالتاري في المنطقة، لا سيما مع تآكل تحالفاته التقليدية مع المعسكر الشرقي في مقابل انتعاش المغرب ديمقراطيا واقتصاديا بدعم من المعسكر اللبرالي الغربي. ولهذا السبب في نظرنا لم يعد أمامه غير استجداء موريتانيا للتوسط له لدى المغرب وبالتعدي لدى المعسكر الغربي...
اندحار جزائري... وإعادة تشكل الخريطة الجيواستراتيجية للصّحراء
الأمر في نظرنا مرتبط بالسياقات الجيو - سياسية التي فتح النظام العسكري الجزائري عينيه عليها بغتة، لا سيما على مستوى اندحار تحالفاته التقليدية أمام انتعاش التّموقع الدولي للمغرب. يبدو أن قصر المرادية قد تفطن - بشكل متأخّر على سبيل المثال - إلى أن مشروع خط الغاز “نيجيريا – المغرب“ يشكل ضربة قاصمة لاقتصاده الوطني، وذلك اعتبارا لاعتماد الجزائر كليا على صادراتها من الغاز التي تُشكل نحو 20% من ناتجها المحلي الإجمالي، و90% من إيرادات التصدير. ففي حالة نجاح هذا المشروع فإن ذلك سيعني بشكل أوتوماتيكي تحلل دول أوروبا الغربية من ارتهان اقتصادياتها للغاز الجزائري، وهو الأمر الذي سيُفاقم من الأزمة الاقتصادية للنظام العسكري في الجزائر وسيزيد من منسوب السخط الشعبي ضده، هذا فضلا عما سيفضي إليه نجاح هذا المشروع من تشكيل حزام من 13 دولة إفريقية، بوسعه خنق هذا النظام وعزله عن عمقه الأفريقي اقتصاديا وسياسيا. وإذا نظرنا إلى المشهد من زاوية أخرى، يمكننا أن نستدعي مشروعا مغربيا آخر لا يقل أهمية عن سابقه، أقصد هنا مشروع “المبادرة المتوسطية“ التي أعلن عنها الملك في خطاب رسمي، وهي المبادرة التي ترمي إلى تمكين أربع دول من منطقة الساحل والصحراء “بوركينا فاسو، والنيجر، ومالي، وتشاد“ من النفاذ إلى المحيط الأطلسي عبر استغلال البنية التحتية المغربية.
الأكيد هنا أن المغرب قد استثمر تفكك منظمة “الإيكواس“، بعد انسحاب كل من بوركينافاسو والنيجر ومالي، لتجذير نفوذه وترصيد ريادته بمنطقة الساحل وجنوب الصحراء في أفق إعادة تشكيل الخريطة الجيو- سياسية لهذه المنطقة التي طالما اعتبرتها الجزائر بمثابة حديقتها الخلفية...
سياق جيو - استراتيجي دولي.. وارتباك جزائري وعزلة
استعطاف النظام التوتاليتاري الجزائري للرئيس ولد الغزواني للقيام بالوساطة له لدى المغرب، يأتي في سياق جيو استراتيجي دولي يشتد فيه حبل العزلة الذي بات يلتف حول عنق هذا النظام. فإذا غضضنا الطرف عن توالي الاعترافات الدولية الوازنة بسيادة المغرب على الصحراء “فرنسا، إسبانيا، ألمانيان الولايات المتحدة...“ مع تسجيل عودة الحليف الأمريكي القوي للمغرب دونالد ترامب إلى دفة التسيير مع استئناف المغرب لعلاقاته الديبلوماسية مع إسرائيل...، فإننا نلاحظ في المقابل استمرارا مهولا لوضعية العزلة الدولية التي باتت تخنق النظام الجزائري، ذلك لأن هذا النظام قد ارتبط على الدوام بمحور إيران – روسيا، مما جعله يجاهر بمساندة نظام الأسد خلال الحرب الأهلية السورية، للحيلولة دون مرور الغاز القطري نحو دول أوربا الغربية كي تستمر روسيا في التحكم في اقتصاديات هذه الدول عبر أنابيب نورد ستريم، وهو ما خلق له عداوات مجانية مع هذه الدول ومع دول مجلس التعاون الخليجي كذلك.
فإذا كان المغرب، قد حاصر الجزائر في أفريقيا، فإنها قد باتت معزولة عن عمقها الشرق أوسطي أيضا بعد الانهيار الفادح لحلفائها الروس والإيرانيين، وهو الأمر الذي ولد لدى رفاق شنقريجة الخوف من هبوب رياح التغيير نحو الجزائر نفسها.