يحظى مفهوم النظام العام بأهمية قصوى لدى كافة الفاعلين من مختلف المجالات، خصوصًا في الأوساط السياسية والقانونية، حيث يثير هذا المفهوم اهتمامًا متزايدًا نظرًا لما يتضمنه من إمكانيات تطبيقية متنوعة، فضلاً عن كونه أداة تُوظف في سياقات سياسية وقانونية مختلفة. وينبع هذا الاهتمام من الطابع المرن، وأحيانًا الغامض، الذي يتسم به هذا المفهوم، حيث تُستعمل مفاهيم مثل "النظام العام"، "الإخلال بالنظام العام"، و"تهديد النظام العام" بطرق متعددة حسب طبيعة القضايا والسياقات التشريعية المختلفة.
في السياق المغربي، يُعد “تهديد النظام العام" مفهومًا واسعًا وغير محدد بدقة، ما يترك مجالاً لتقدير السلطات الإدارية في تفسيره وتطبيقه، الأمر الذي يثير مخاوف من إمكانية إساءة استعماله في بعض الحالات، ومنح صلاحيات استثنائية دون ضوابط واضحة. وبسبب غياب تعريف قانوني صريح ومحدد على الصعيد العام أو في سياقات معينة، تتعقد محاولات وضع حدود دقيقة لهذا المفهوم، مما يفرض على القضاء والإدارات العامة مهمة تحديد ما إذا كانت الظروف تشكل تهديدًا فعليًا للنظام العام، استنادًا إلى طبيعة كل حالة على حدة.
وفي ضوء الملاحظات المتزايدة التي أبداها بعض الفاعلين من المجتمع المدني، اتضح أن هذا التفسير الذي يتم استدعاؤه فيما يتعلق بحقوق الأجانب يتسم بقدر كبير من الغموض، خاصة فيما يرتبط بإجراءات الإبعاد أو القرارات الخاصة بمنح أو تجديد تصاريح الإقامة. تتطلب هذه القرارات إداريًا عدم وجود تهديد للنظام العام، في حين أن عمليات الطرد ترتبط بوجود تهديد جسيم للنظام العام، غير أن الصياغة غير الواضحة لهذا المفهوم، المتكررة في نصوص القانون 02.03 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب في المملكة المغربية والهجرة غير النظامية، تثير تفسيرات وتأويلات متعددة، مما يفتح الباب أمام إمكانية اتخاذ قرارات تعسفية، نتيجة عدم وجود قائمة محكمة وموحدة للأفعال التي يمكن أن تُعد تهديدًا للنظام العام.
وفي هذا السياق، نظمت مجموعة مناهضة العنصرية والدفاع عن حقوق الأجانب والمهاجرين (GADEM) بالتعاون مع جمعية الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان ورشة عمل يوم الخميس 12 دجنبر 2024 بالرباط بهدف تفكيك وفهم مفهوم النظام العام كما ورد في مختلف النصوص القانونية المغربية، من أجل تعميق النقاش حول المنطق الذي يقوم عليه هذا المفهوم في القوانين الوطنية، وكذلك في الممارسات الإدارية والقضائية. كما توقفت الورشة عند تحليل قانون 02.03 المتعلق بدخول واقامة الأجانب بالمغرب في تقاطعه مع نصوص قانونية أخرى تتناول مفهوم النظام العام، وإلى المساهمة في تعزيز التطبيق العادل والمنصف للقانون، مع الحرص على حماية الحقوق الأساسية للأشخاص المعنيين.
وغطت الورشة بالنقاش المحاور التالية:
الإطار المفاهيمي والقانوني العام
الوقوف عند مايشكله: "تهديد النظام العام" أحد المفاهيم المركزية في القانون المغربي، حيث يُعتبر أساسًا للعديد من القواعد القانونية التي تهدف إلى ضمان الأمن والاستقرار داخل المجتمع. فقد حرص المشرع المغربي على وضع إطار قانوني لحماية النظام العام، بما يضمن السير الطبيعي للمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن الحفاظ على السلم الاجتماعي. ويُفهم من هذا المفهوم أنَّه يشمل كل تصرف أو سلوك يمكن أن يؤدي إلى إلحاق ضرر بالنظام العام أو يتسبب في خلخلة استقرار الدولة في مجالات مختلفة، سواء كانت سياسية، اجتماعية أو اقتصادية.
في هذا السياق، يمكن القول إن "تهديد النظام العام" يعد من المصطلحات القانونية الفضفاضة التي تتنوع دلالاتها وفقًا للسياق الذي يتم استخدامها فيه. وتتشكل هذه التهديدات من الأفعال التي تؤثر على الأمن الداخلي للدولة، وتزعزع الثقة في السلطات العامة أو تهدد تماسك المجتمع. وتشمل هذه التهديدات على سبيل المثال لا الحصر: أعمال العنف السياسي، الهجمات على الممتلكات العامة والخاصة، بالإضافة إلى الجرائم الاقتصادية الكبرى مثل غسل الأموال أو التهرب الضريبي.
يتطلب تحليل مفهوم "تهديد النظام العام" دراسة معمقة لمجموعة من القوانين التي تطرقت إلى هذا الموضوع. في مقدمة هذه القوانين نجد القانون الجنائي، الذي ينص على مجموعة من العقوبات التي تهدف إلى مواجهة الأفعال التي تهدد استقرار الدولة وأمنها. كما تعد المقتضيات المرتبطة بالأمن العام من أهم القوانين التي تعنى بهذا المجال، حيث تحدد اختصاصات الهيئات الأمنية في مواجهة التهديدات التي قد تطرأ على النظام العام من خلال مكافحة الجرائم، وتعزيز الأمن الداخلي، وتنظيم العمليات الأمنية المختلفة. ولكن التحدي الأكبر يكمن في تحقيق توازن بين ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم من جهة، وبين ضرورة حماية النظام العام والحفاظ على استقرار المجتمع من جهة أخرى.
هذا التوازن هو ما يعكس جوهر العديد من النقاشات القانونية والفلسفية، حيث يُطرح السؤال حول مدى مشروعية تدخل الدولة في حياة الأفراد وحرياتهم الشخصية من أجل الحفاظ على النظام العام. وهل يجوز للدولة تقييد بعض الحريات الفردية تحت مسمى "حماية النظام العام"؟ أم أنَّ هناك حدودًا يجب احترامها لضمان عدم المساس بالحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين؟
في هذا الإطار، تناولت المداخلة الأولى في الورشة للأستاذ عبدالله أسبري ( محامي بهيئة الرباط) تحليلًا دقيقًا لمفهوم "تهديد النظام العام" في التشريعات المغربية، مع تسليط الضوء على كيفية تعريف هذا المفهوم في مختلف القوانين المغربية ذات الصلة. كما تم التركيز على القوانين المتعلقة بالأمن العام والنظام العام، والتي تُعتبر بمثابة الأداة القانونية لحماية النظام العام في البلاد، وتحديد كيفية تفاعل هذه النصوص القانونية مع التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطرأ على المغرب.
كما تمت الشحاطة بالأبعاد المفاهيمية والقانونية المحيطة بمفهوم "تهديد النظام العام"، من خلال عرض كيفية تطبيق هذا المفهوم في الواقع القانوني المغربي وتوضيح آليات التنفيذ التي تعتمدها السلطات المختصة. كما سيُسلَّط الضوء على الدور الحيوي للهيئات القضائية في ضمان عدم تجاوز هذه التدابير الحدود القانونية، مما يضمن تحقيق التوازن بين الأمن العام وحماية الحريات الفردية.
النظام العام والحريات العامة:
أما المداخلتين الثانية للأستاذ محمد اشماعو ( محامي بهيئة الرباط) والثالثة للناشط المدني و الحقوقي إسماعيل بلقحية ، فقد تم خلالهما تسليط الضوء على العلاقة بين الحفاظ على النظام العام وحماية الحريات العامة والخاصة. و كيفية تأثير التدابير القانونية الموجهة لحماية النظام العام على الحريات الأساسية مثل حرية التجمع، حرية التنظيم، وحرية الصحافة. كما تم تناول الحالات التي قد يحدث فيها تضارب بين فرض إجراءات أمنية لضمان النظام العام وبين حقوق الأفراد في ممارسة حرياتهم العامة والخاصة. كما تناول التحديات التي يواجهها المشرع في تحقيق التوازن بين الأمن والحقوق في ظل القوانين التي تُطبق في البلاد.
النظام العام وحقوق الأجانب
المداخلة الأخيرة للناشطة الحقوقية سارة سوجار تناولت بشكل خاص كيفية تأثير التشريعات المتعلقة بالنظام العام على حقوق الأجانب والمهاجرين. حيث تم استعراض كيفية تعامل القانون المغربي مع الأجانب في السياقات القانونية المختلفة، سواء كانت تتعلق بالهجرة، الإقامة، أو حتى الإجراءات الأمنية على الحدود. كما تم التطرق إلى كيفية حماية حقوق الأجانب في ضوء النظام العام، مثل حقهم في الحصول على محاكمة عادلة، حقهم في الحماية من الترحيل التعسفي، وحقهم في الحصول على الرعاية الصحية والتعليم. كما تم تناول التحديات القانونية والإنسانية التي يواجهها الأجانب في المغرب في ظل السياسات الأمنية الموجهة للحفاظ على النظام العام.
الورشة شهدت نقاشا تفاعليا تم خلاله تبادل الآراء والأفكار حول القضايا التي تم تناولها خلال المداخلات الأربعة . حيث أتيحت للمشاركين والمشاركات طرح أسئلتهم وتعليقاتهم حول المواضيع التي تم تناولها، بالإضافة إلى مناقشة تجاربهم الشخصية أو المهنية في التعامل مع هذه القضايا في السياق المغربي ، مما مكن من إثراء الفهم الجماعي للمفاهيم القانونية والإجرائية المرتبطة بالنظام العام وحقوق الأفراد. و إستشراف إمكانيات الترافع بهدف تحسين التشريعات الحالية بما يضمن حماية النظام العام دون المساس بالحريات الأساسية للأفراد .
الورشة التي افتتحها ذ. يوسف غويركات الكاتب العام لجمعية الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان ، خلصت إلى بلوة مجموعة من المقترحات و التوصيات ستشكل أرضية لمبادرات مقبلة .