في هذا الجزء الثاني من التحليل الذي خص به محمد الطيار، باحث في الدراسات الاستراتيجية والأمنية، جريدة "أنفاس بريس"، يتحدث فيه عن كيف سيطرت فرنسا على مناجم الملح والذهب وفرضت الضرائب وجعلت النقود أساس التبادل التجاري في مالي.
عبر التاريخ تنقل الطوارق في كل أرجاء الصحراء الكبرى، إلى أن قسم الاستعمار الفرنسي مجالهم الترابي على دول النيجر ومالي والجزائر وليبيا وبوركينا فاسو، فمنذ أن وصل في القرن الـتاسع عشر إلى صحراء الطوارق، عمل على خلخلة النظام الاجتماعي وقوض العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وفقد الطوارق السيادة على المدن المهمة والتاريخية كتمبكتو وغاو، كما انخفض حجم التجارة التي تمر عبر الصحراء، خاصة مع تطور الملاحة البحرية لدى الأوروبيين وسيطرتهم على سواحل غرب إفريقيا، حيث أخذت طرق التجارة تتجه نحو أوروبا عن طريق البحر، الأمر الذي تسبب في تراجع اقتصاد الطوارق، ثم تراجع أكثر حين عمدت فرنسا إلى ترسيم الحدود، مما ضيق مجال حركة الطوارق ضيقا وهم الذين كانوا قبل الاستعمار الفرنسي للمنطقة يتجولون فيها بكل حرية، وعمدت فرنسا كذلك إلى إلغاء النظام الكونفدرالي الذي كان يجمع القبائل الطوارقية الأمازيعية، كما سيطرت على مناجم الملح والذهب وفرضت الضرائب وجعلت النقود أساس التبادل التجاري .
بعد مغادرة فرنسا وقيام ثورة 1963م، شهد اقتصاد الطوارق انهيارا حادا بسبب القمع الذي تعرضوا له من قبل الجيش المالي، كمنعهم من الأسواق وخسارتهم لقطعان المواشي، وكذلك خسارتهم للمراعي على إثر لجوئهم إلى البلدان المجاورة. وبعد عشر سنوات حل الجفاف سنة 1973 م حيث خسر الطوارق أغلب مواشيهم، وقد تحول حينها جلهم إلى لاجئين في الدول المجاورة خاصة الجزائر وموريتانيا وليبيا.
وقد فاقمت قسوة الطبيعة وشح الموارد الطبيعية وشساعة الصحراء من معاناة شعب الطوارق، سواء في النيجر أو مالي، مما أدى إلى قيامه بثورات مسلحة ضد السلطات المركزية التي دخلت في مواجهات قوية معه وتصدت بعنف لمطالبه، الأمر الذي سبب ارتفاع نسبة الهجرة إلى دول الجوار وجعل منطقة أزواد تعرف تخلفا شاملا في كل المجالات. فبعد استقلال مالي والنيجر، واجه الطوارق ضغوط الأنظمة العسكرية والحكومات المركزية التي اعتمدت سياسة تقوم على التمييز العرقي ما بين البدو الرحل من الطوارق والسكان الحضر من الأفارقة السود، مما أدى بالطوارق إلى الثورة عدة مرات على هذه السياسة، مما زاد من تهميشهم. وخلال هذه الثورات كانت السلطات المركزية تعمد أحيانا إلى القيام بأعمال انتقامية.
فخلال تمرد الطوارق سنة 1990 ضد باماكو، تحول الصراع سريعا إلى اقتتال واسع، حيث قامت مليشيات السنغاي (دوي البشرة السوداء) المدعومة من الجيش المالي والمعروفة باسم ميليشيات "غاندا كوري"، بشن هجمات ضد السكان المدنيين من الطوارق، سقط على إثرها العديد من الضحايا مما قوى من الانقسامات في شمال مالي.
وإبان هذه الفترة ساد شعور لدى الطوارق بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية وأنهم غرباء في وطنهم نظرا لإقصائهم من المناصب المدنية والعسكرية في الدولة، فضلا عن تجاهل خصوصيتهم الثقافية. وبعد تمرد 1990 م وتوقيع اتفاقية مدينة «تامنراست» في الجزائر، شهد الوضع تحسنا نسبيا حيث رفع حظر الأسواق عن الطوارق وأدمج بضعة آلف منهم في الجيش ليكونوا أول طوارق يتقاضون رواتب من الحكومة المالية، وتدريجيا عادت الحياة إلى اقتصادهم وتحسن نشاط تجارة مناجم الملح، كما بدأ توافد السياح على المنطقة.
إلا أن الرد القاسي وقطع موارد الرزق عن الطوارق في إطار الإجراءات الانتقامية التي واجهت بها السلطات المركزية في مالي التمرد، والنتائج المترتبة عن التأثيرات المناخية حيث فقد الآلاف منهم مواشيهم وأصبحوا بدون مورد مالي، دفع بالآلاف منهم للجوء إلى دول الجوار. وقد أدت هذه الوضعية إلى تمرد سنة 2006 م، وبعد ذلك إلى تطورات سنة 2012 م حيث انهزم الجيش المالي أمام الطوارق مما دفع فرنسا للتدخل عسكريا على إثر الأحداث التي تلت ذلك.
رهانات انتفاضات طوارق أزواد
عرفت منطقة أزواد ثلاث ثورات للطوارق بعد ثورة 1963 م، بدأت الأولى سنة 1990 م وكان هذا التمرد هو نتيجة لما ترتب عن التطورات التي وقعت بعد إخماد تمرد 1963 م، حيث ارتكب الجيش المالي العديد من التجاوزات بحق البدو الطوارق، مما أدى إلى هجرة جماعية لهم إلى البلدان المجاورة الجزائر وليبيا وموريتانيا، ليأتي بعد ذلك جفاف السبعينات الذي ضرب منطقة الساحل والصحراء، وتبدأ بذلك موجة هجرة جديدة نحو الجزائر وليبيا وموريتانيا ونيجيريا والسعودية. وبعد أن استولى العقيد معمر القذافي على الحكم في ليبيا سنة 1969 ، أعلنت السلطات الليبية ترحيبها بالطوارق وسمحت لأبنائهم الالتحاق بالمدارس الحكومية وضمت المتعلمين منهم في الإدارات العمومية، كما جندت شبابهم في الجيش الليبي ضمن الكتيبة الخضراء التي شكلها القذافي من الطوارق.
وبعد انتهاء الحرب الليبية التشادية 1987 م التي شارك الطوارق فيها ضمن القوات الليبية، طالب العسكريون الطوارق في ليبيا القذافي بمساعدتهم، ليتم تأسيس «الحركة الشعبية لتحرير أزواد» في عام 1988 م في ليبيا.
على إثر ذلك، وفي سنة 1990 م - التي عرفت قيام الجزائر بإرجاع الآلاف من اللاجئين إليها من الطوارق إلى شمال مالي - بدأ التمرد بمهاجمة عناصر «الحركة الشعبية لتحرير أزواد» سجن وثكنة عسكرية للجيش المالي في منطقة «منكا»، ليرد الجيش المالي بالهجوم على المدنيين للضغط. على المتمردين مما أدى إلى موجة نزوح جديدة، و قد أدانت حينها المنظمات الحقوقية الفرنسية التجاوزات التي ارتكبها الجيش المالي ضد المدنيين الطوارق، فتدخلت فرنسا ودعت سلطات مالي للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع «الحركة الشعبية لتحرير أزواد»، ليعقد اجتماع بين الحكومة المالية و«الحركة الشعبية لتحرير أزواد» بمدينة تامنراست الجزائرية بإشراف جزائري وفرنسي .
وتم توقيع اتفاقية تامنراست أواخر سنة 1990 م، التي نصت على وقف الهجمات من الطرفين وسحب القوات المالية من منطقتي تمبكتو وكيدال، والعمل على منح المنطقة حكما ذاتيا بالإضافة إلى تخصيص جزء من المداخل لتنميتها.
بعد توقيع الاتفاقية ونشر بنودها في الجريدة الرسمية المالية، اتستغلها المعارضة والجيش ضد الرئيس المالي موسى تراوري، حيث أتهم بالتنازل عن جزء من البلاد مقابل المال وثار السكان ضد الرئيس والطوارق معا، في إعلان صريح من الجيش على أنه ضد الاتفاقية. وقامت العديد من المظاهرات ليقوم الجيش المالي بالإطاحة بالرئيس وباتفاقية تمنراست، حيث قاد المقدم أمادو توماني توري انقلابا عسكريا واستولى على الحكم في 16 مارس 1991 م، وقام بإلغاء اتفاقية تامنراست الموقعة بين الحكومة والمتمردين بعد شهرين من توقيعها، وأعلن كذلك حالة الطوارئ في كل أنحاء البلاد.
لم يجد المدنيون أنذاك أمام حملات قوات الجيش المالي سوى الهجرة المكثفة إلى الجزائر وموريتانيا وبوركينافاسو والنيجر. ونظم الطوارق أنفسهم في عدة حركات انشقت معظمها من الحركة الأم «الحركة الشعبية لتحرير أزواد» التي تصدعت بفعل الانشقاقات المتكررة، منها «الجبهة العربية الإسلامية لتحرير أزواد» «تمثل العرب في أزواد»، و»الجيش الثوري لتحرير أزواد»، و«الجبهة الشعبية لتحرير أزواد»، و«الجبهة المتحدة لتحرير أزواد».
وقامت هذه الحركات بمهاجمة المدن الكبرى في منطقة أزواد، واستمرت الحرب إلى حلول أول انتخابات رسمية في مالي، عرفت انتخاب ألفا عمر كوناري رئيسا للبلاد. وكان أول قرار اتخذه هو إنهاء الحرب مع الطوارق وعبر عن استعداده للموافقة على أي حل في إطار الوحدة الوطنية، فتم عقد اجتماع حضره ممثلو دول المنطقة بالإضافة إلى ممثلي فرنسا في العاصمة باماكو يوم 11 من أبريل 1992 م، للتوقيع على اتفاقية سميت بـ «المعاهدة الوطنية» والتي كان من المفترض ان يحصل بموجبها إقليم أزواد على حكم ذاتي محدود في إدارة شؤونه، ويخصص جزء من الميزانية المالية لرفع مستوى أحوال سكان الإقليم، ويتم إنشاء مكتب في باماكو تحت اسم "مكتب شؤون الشمال" لتقديم الاقتراحات لحل مشاكل الإقليم، كما نصت الاتفاقية على إلحاق عدد من المتمردين الطوارق بالجيش المالي ودمج البقية في الحياة المدنية، وقد طالب حينها الطوارق بلجنة دولية لضمان تنفيذ الاتفاق وتفعيله وإنشاء لجنة لتقصي الحقائق حول الانتهاكات التي وقعت في الشمال ومحاسبة مرتكبيها.
ولم تنفذ الدولة المالية أي بند من بنود الاتفاق، سوى دمج مجموعة قليلة من المتمردين في الجيش المالي، لكن سرعان ما انسحبوا منه بسبب المعاملة التي تلقوها من قادته الذين كانوا قد اعترضوا على المعاهدة وأيدوا الحل العسكري.
ثم عادت المواجهات بين المتمردين الطوارق والجيش المالي من جديد، وبررت السلطات المالية عدم تنفيذ بنود الاتفاق مع الطوارق بقلة إمكانياتها المادية، وقامت بحملة دبلوماسية في الدول المجاورة بقصد منع احتضان قادة الطوارق والمطالبة باعتماد بالوسائل السلمية لتنفيذ بنود الاتفاق المبرم، وتم توقيع اتفاق سلام جديد سنة 1996 م في مدينة تنبكتو في مهرجان تحت اسم "شعلة السلام" بحضور ممثلين عن الدول الإفريقية والإسلامية والأوربية، وسلم حينها المتمردون الطوارق للدولة المالية ثلاثة آلاف قطعة سلاح، وتم بالمناسبة رسميا حل الحركات الطوارقية.
إلى أن حلت سنة 2005 م، حيث انفجر تمرد أخر قاده ضباط من الطوارق انشقوا عن الجيش المالي، وانضمت إليهم نخبة من المجتمع الأزوادي، وأعلنوا عن تأسيس حركة باسم «التحالف الديمقراطي من أجل التغيير».لكن الأمر لم يدم طويلا حيث تراجعوا ووضعوا حدا لتمردهم بعد أسابيع إثر وساطة جزائرية.
وفي عام 2010 م تأسست «الحركة الوطنية الأزوادية»، وبعد الإطاحة بالعقيد معمر القذافي، التحق سنة 2011 م المئات من المقاتلين الطوارق الذين خدموا في الجيش الليبي لعقود طويلة، «بالحركة الوطنية الأزوادية»، تحت مسمى جديد «الحركة الوطنية لتحرير أزواد»، التي أعلنت عن بداية العمليات المسلحة لتحرير إقليم أزواد من قبضة الجيش المالي، وبعد ثلاثة أشهر فقط من العمليات المسلحة تم طرد الجيش المالي من المدن الرئيسية لإقليم أزواد كتنبكتو وغاو وكيدال.
وقد عجّل الانقلاب العسكري الذي حدث في مالي في مارس 2012 م إثر هزيمة الجيش، بإعلان «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» دولة أزواد، المستقلة في 6 أبريل 2012، غير أن رفض دول المحيط الإقليمي والدول الأوروبية لإعلان قيام هذه الدولة من جانب واحد، جعل المنتظم الدولي عامة لا يرحب بانفصال منطقة أزواد، وتماشيا مع ذلك أصدر مجلس الأمن بيانا في الموضوع، ثم فتحت التطورات اللاحقة المجال أمام دول غرب إفريقيا والأمم المتحدة وفرنسا للتدخل في الإقليم عسكريا «والولايات المتحدة الأمريكية بشكل أحادي غير معلن»، خاصة بعد أن أزاحت الجماعات المتطرفة، التي تنسب نفسها لتنظيم القاعدة، «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» وسيطرت على الإقليم وأصبحت تقترب بشكل متسارع من الوصول إلى العاصمة المالية بامكو، قبل أن يوقف التدخل العسكري الفرنسي زحفها.