رحيلك مفجع صديقي محمد سالم الشرقاوي

رحيلك مفجع صديقي محمد سالم الشرقاوي الراحل محمد سالم الشرقاوي
"كان خاص لجنة تقضي الحقائق البرلمانية تأخذ إفادتك حول ما وقع في مخيم اكديم ازيك، فأنت شاهد على سياقات بنائه وتفكيكه"، هكذا تحدث إلي محمد سالم الشرقاوي، وهو يخرج بعد إفادته للجنة، كان ذلك في الأسبوع الثاني من دجنبر 2010.
يومها كان الشرقاوي مسؤولا عن مكتب المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالعيون الذي تحول فيما بعد للمجلس الوطني لحقوق الإنسان.

 
اليوم التحق الصديق محمد سالم الشرقاوي بالرفيق الأعلى، ولم يبدل شيء في قناعاته الحقوقية، كيف لا، وقد كانت مواقفه متميزة، وهو يترأس فيما بعد اللجنة الجهوية للعيون الساقية الحمراء، ابتداء من سنة 2011، بعد أن دبر رفقة الفريق الذي معه عددا من الملفات الحارقة في الصحراء، وحتى عندما انتهت مهمته في المجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2019، ظل مَلك حقوق الإنسان يرافق الصديق الشرقاوي، إذ أسس رفقة فعاليات حقوقية، منظمة السلم والتسامح للديمقراطية وحقوق الإنسان، بل حتى حفل زفافه كان اقرب لمؤتمر وطني لحقوق الإنسان، بالنظر لكثافة الوجوه الحقوقية من الجنسين على الصعيد الوطني..
 
أتذكر ذات ليلة باردة من ليالي أكتوبر 2010، كان ذلك أياما قليلة قبل تفكيك مخيم اكديم ازيك، سقط مساءها الطفل الناجم محمد فاضل الكارح، لم يكن يتجاوز 12 سنة، بعد إصابته برصاصة طائشة بإحدى جنبات المخيم. سمعت طلقة النار، لكن توقعتها تحذيرية في السماء، فقد كنت على بعد عشرات الأمتار منها. وأنا داخل المخيم أقوم بجولة إعلامية تحت مراقبة "لجنة الأمن" الخاصة بالنازحين، عمت حالة استنفار وسط المخيم، هلع وخوف من صوت الرصاص، حينها أمرني أحدهم، بضرورة المغادرة فورا، التمست منه البقاء، لكنه رفض بشكل مطلق. وأنا أغادر المخيم، لمحت النعم اسفاري، الذي اعتبرته المحكمة العسكرية والاستئنافية فيما بعد، المتهم الرئيسي، والذي أدين ب 30 سنة سجنا، وهو يهرول نحو إحدى الخيام، وكأن الأمر يهم اجتماعا للجنة المشرفة على تنظيم هذا المخيم..
 
بسرعة جنونية، وهذا موثق في إحدى الأعداد من جريدة "الوطن الآن" تم نقل الطفل الكارح على وجه السرعة إلى مستشفى مولاي المهدي بالعيون، وهناك قدمت له الإسعافات الأولية، لكن دون جدوى حيث لفظ أنفاسه الأخيرة، ومن نافذة صغيرة تطل على ممر المستشفى من الخارج، كنت ألتقط ما كان يدور بين الأطقم الطبية والتمريضية حول حالة الطفل المتوفي، بعد أن تم غلق باب المستشفى وضرب حراسة مشددة على كل مداخله..
 
بالمستشفى وقبل ذلك كان الراحل محمد سالم الشرقاوي، أشبه برجل إطفاء، بحكم معرفته بمنظمي هذا المخيم، وخلفياتهم، كان يريد أن لا يتم استغلال ذلك لدخول أنصار البوليساريو على الخط، فكان يسارع الزمن سواء لدى "المعايل" بالتعبير الصحراوي، أي الشباب، أو لدى الجهات الأمنية، من أجل ألا تتطور الأمور لما لايحمد عقباه..
التقيت به ذلك المساء البارد بمدخل المستشفى متابعا جيدا لملف الطفل الكارح، يدون الحيثيات عن طريق إفادات من كانوا حاضرين أو شاهدين، يساعده في ذلك بعض أعضاء اللجنة الحقوقية، وأنا منشغل بالتغطية الإعلامية لهذا الحدث، تلقيت هاتفا من رقم مجهول، بأن طلبي المبيت بمخيم اكديم ازيك، قد تمت الاستجابة له، من قبل أحد النازحين، لم يكن طبعا ذلك بعلم "اللجنة الأمنية"، وأمرني المتصل باللقاء في نقطة معروفة بطريق السمارة، شارع محمد السادس، فيما بعد.

 
عند زيارتي الأولى للمخيم، بموافقة "اللجنة الأمنية" لم تفارقني بعض عناصرها في جولتي الإعلامية، فكانت تحركاتي تحت الأنظار، وعلى الرغم من اجتماعي بالنعم أسفاري في خيمته، وحديثنا عن عدد من الأمور التي تهم سياق بناء المخيم وآفاقه، ومدى ارتباطه بمطالب اجتماعية لجزء من ساكنة العيون أو مطالب سياسية من أنصار البوليساريو، فإن العيون كانت تترصدني، وأنا أغادر خيمة هذا الوجه المعروف بمناصرته للبوليساريو، لهذا طلبت سرا من أحد الأصدقاء بضرورة قضائي لأيام وليالي متخفيا حتى أنجز روبرطاجا متكاملا.. 
وفعلا نجحت في إقناع هذا الصديق، الذي ربط لي الاتصال بأحد الأشخاص الذين لاتحوم حولهم أي شبهة..
للسلامة، أخبرت الصديق محمد سالم الشرقاوي، برغبتي في إعادة الزيارة لمخيم اكديم ازيك، لكنه نصحني بالعدول عن الفكرة لمخاطرها، والاكتفاء بمشاهدات الساعات القليلة التي زرت فيها المخيم، أخبرته، بأن صديقا سيدبر لي زيارة سرية، دون أن أكشف له عن الهويات، وقلت له عندي طلب صغير، "بغيتك تعطيني شي جاكيط عندك في السيارة، لأني ماشي الليلة للمخيم، ومعنديش الوقت نرجع للفندق"، أجابني، "يعني انت مصر على الدخول لاكديم ازيك، المهم انتبه لنفسك"، فما كان منه إلا أن نزع عنه معطفه الطويل، ووضعه على كتفي، "سأتصل بالوالدة ترسل لي ما أرتديه، وانت سير الله يعرضك السلامة"، لأغادر نحو المكان المتفق عليه مع الوسيط.
بعد يومين من "المهمة الصعبة" داخل المخيم، خرجت منه كما دخلت إليه، متخفيا، شاكرا للوسيط، هذه الخدمة، فكان روبرطاجا من وسط المخيم، مليئا بتفاصيل حصرية.

 
ومن هذه التفاصيل المنشورة على صفحات "الوطن الآن" ، وبعد توالي الزيارات للعيون، وخصوصا عند حضوري لتفكيكه ساعات قليلة بعدها، وبالضبط، الإثنين 7 نونبر 2010، وتدويني بحيادية ما عرفه ذلك اليوم المشهود من جرائم قتل ل 11 عنصرا أمنيا من القوات العمومية، ومستوى التخريب في المدينة.
التقيت مجددا بالراحل محمد سالم الشرقاوي، وشكرته على المعطف، فأبى إلا أن أحتفظ به ذكرى منه.. مسرا إلي بأن عددا من المواد الإعلامية التي نشرتها في الجريدة شكلت مرجعا للجنة تقصي الحقائق البرلمانية حول حدث اكديم ازيك.
طوال أكثر من 15 سنة، لم تنقطع علاقتي بالصديق محمد سالم الشرقاوي، وكان مكانه المعتاد في فندق المسيرة، موعدا دائما للالتقاء به، فتح لي باب بيته، وجلست مع والدته حفظها الله، وزوجته، بل وطلب منهما إعداد طبق مارو بلحم الإبل، "حتى لايفضحنا هذا البيضاوي البيضاني عند الناس"، يتحدث مع والدته. ولأنه كان يعرف مدى تعلقي بهذا الطبق، أصر علي بأن آخذ طبقا آخر لأسرتي في الدار البيضاء، وهي العلاقة التي تطورت أخويا، إذ كنت غير ما مرة مع زوجتي ضيوفا في بيته بالعيون.
رحل عنا اليوم الصديق محمد سالم الشرقاوي، والذي أحتفظ له بميزة نادرة في أهل الصحراء، هو أنه كان يتحرك حقوقيا واجتماعيا دون استحضار خلفيته القبلية..
فليرحمك الله صديقي محمد سالم الشرقاوي، ويرزق أسرتك الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون.