روائح الحياة التي تُغني أحيانا عن حاسة الإبصار...عجائب وغرائب غير مرئية لكنها حية على الدوام.
روائح الأمهات تظل تجذبنا حتى الموت للقاء تلك الأجساد التي أنجبتنا أولا وتغذينا منها ثانيا حتى حصلنا على جرعة الاستمرار في الحياة وعبثنا بها ثالثا حتى ترهلت لنبلغ بأجسادنا قمة النضج والنضارة والفتوة والإغراء.. تلكم روائح لامثيل لها مهما صنعوا لها من عطورتحاول نسخها أو نسائم تحلم بالحلول محلها، بل ومهما صاغوا لها من الجمل والتعابير كانت نثرا او شعرا أو تشكيلا فإنها ستظل همسات أثيرية لا تقبل المكوث في صناديق اللغة أو في أقفاص النسخ الشبيهة..
كل الروائح التي تسكنني تستيقظ أحيانا من سباتها العميق لتسألني ببراءة الصغار: ألم يحن بعد وقت اللقاء بي من جديد يا صديقي؟
تلك العطور القائمة في أعماقي تنبئني حينما يشتد بها الحنين إلى الانبعاث من النسيان في خضم عالم قلّما يقيم اعتبارا لروائح الطبيعة المقيمة في الفصول والمواسم والأعراس والمآتم والأفراح، بل وحتى في المعارك حيث أن رائحة البارود تظل عالقة بزي الجنود مهما شاخوا أو ماتوا لأنها شاهدة على الموت والبطش والجنون...إنها رائحة الموت التي تزورنا في سرادق العزاء ولحظات مواراة الثرى جثت الأهل والأقارب والأصدقاء.. رائحة الموت نعرفها ولكن يصعب تذكرها، بل وحتى قولها لغة...
حتى الدفاتر الجديدة عند بداية كل موسم دراسي كانت لها روائح خاصة، بحيث كلما لمسني شيء يشبهها في دفاتر اليوم سرعان ما تغمرني مشاعر الحنين لرفاق ذهبوا وأمهات ماتوا، وساحات انقرضت، وسبورات طُويت، وضحكات غابت..وعالم ورقي في طريق الانقراض ..
بل حتى المنشفات التي كنا نستعملها حينما كانت الكتابة بالريشات كانت لها رائحة تشبه شيئا لم نألفه حتى دخلنا المدرسة، لكنها كانت لها هوية في ذاكرة الشم، اقترنت في مخيالنا برائحة النظافة والتجفيف والحرص على ألا يتدفق المداد على حواشي الحروف..
حينما كنا نلهو باقتلاع القصب من الوادي كانت تنبعث منه رائحة لا شبيه لها في الكون تغمر المكان وتبلل أناملنا بماء قادم من أرحام الكون البعيدة..فما بالك حينما ينهمر المطر في فصل الصيف بعد الهجيرة .. كنا نرقص ونغني وكأننا نقيم عرسا طقسيا لتلك الرائحة المنبعثة من لقاء السماء بالأرض... البلل الخصيب...
لفساتين النساء والأمهات و الأخوات والجارات وقت الأعراس روائح الدلال الممزوجة بعطر الحناء والقرنفل والغاسول وهن يتسربلن في أحسن صورة لتدوين حضورهن في مناسبات الزواج والخصوبة والختان...حينما يخالط الكحل الحناء والسواك والتشامير أو القفطان والبابوشات المزينة بحبات "موزون" تسكر عقول الأطفال وهم يتابعون غناء السيدات في مشهد لم يعد له وجود ...فقط روائحه لا تزال تكتبه في أحلام الصغار حنينا إلى أعمار زالت وفسحة وجود اختفت...
لأصحاب المناجل وقت الحصاد وجباههم تتصبب عرقا رائحة لا تفنى مهما غادر الحصاد كل مواسم صيفنا، بل هي نسائم مسكّرة وفوّاحة يختلط فيها العرق الحلال بطعم السنابل المصفرة والمناجل المسنّنّة وهي تقطفها من عشق الأرض وكرم السماء لتكورها قبضات في يد حصّاد لا يكترث كثيرا بالحرّ والجوع والعطش وهو يعيد الحقول لفراغها الأول...تلك الساحات المحصودة التي ستصبح ساحات لاحتضان شغب أجسادنا الفوارة، فيها كنا نتعلم أنواع من فنون "الجمباز الشعبي" "سيدي احماد أوموسى" و محاولات في اقتحام اسرار "المصارعة بالأجساد" تموغزيل" بلغة الأجداد ...
كل الأشياء تفنى وتموت وتنتهي مهما بلغت من القوة والفتنة والجبروت درجات إلا الروائح فلها عمر مديد وسر مبثوث في دواوين البقاء مما يؤهلها للعودة إلى عبور الحاضر متى شاءت لتخبرنا أن الموت هو حكم يشمل فقط من فقد حاسة استنشاق عطر الوجود أما النسائم و الأصوات و الألحان والأشجان والأحلام فلها منطق آخر لن تبلغ سره ماكينات التكنولوجيات مهما تجبرت وتجاسرت محاولة الحلول محل الإنسان..