من الصعب جدا تقديم قراءة للتّطور التّاريخي للإدارة المغربية في حوار صحفي، لأن هذه القراءة هي موضوع دراسات وأبحاث أنجزت من طرف باحثين مغاربة ومن داخل تخصصات متعددة وبالخصوص في كليات الحقوق. ولكن إجمالا يمكنني أن أقول أن واقع الإدارة اليوم هو نتاج مسار تاريخي بدأ منذ الفترة الاستعمارية التي أحدثت إدارة حديثة ولكن كانت في خدمة مصالح البلد المستعمر وورثنا جزءا من أعطابها، مرورا بمرحلة الإستقلال التي ستحاول فيها الدولة إرساء دعائم إدارة مغربية حديثة انطلقت مع سياسة المغربة بداية الخمسينات مع حكومة عبد الله ابراهيم -رحمه الله- وإصدار قانون الوظيفة العمومية سنة1958، مرورا بعدة محطات للإصلاح منذ مرحلة الثمانينات، (منها إحداث لجنة وطنية لإصلاح الإدارة العمومية 1981،1995 مع صدور تقرير للبنك الدولي حول الإدارة المغربية، 1999 مع ميثاق حسن التدبير، 2003 المناظرة الوطنية الأولى حول إصلاح الإدارة، التنصيص على حكامة المرافق العمومية في دستور 2011 الذي كرّس حقوق المواطن في المرافق عامة فعالة، وفي المعلومة والمساواة في الولوج إلى هذه المرافق، في إطار احترام الكرامة، صدور قانون بمثابة ميثاق المرافق العمومية 2021 والذي حدد مبادئ وقواعد الحكامة الجيدة المتعلقة بتسيير الإدارات العمومية والجهات والجماعات الترابية الأخرى والأجهزة العمومية. كما وضع المبادئ التي يجب أن تخضع لها هذه المرافق من قبيل: احترام القانون، والإنصاف في تغطية التراب الوطني، والإستمرارية، الملاءمة، والجودة، والشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، النزاهة، والإنفتاح.)، والتي لم تؤدّي إلى تغيير حقيقي وملموس من واقع الإدارة المغربية الذي يجمع الكل على تفاقم مشاكلها وأعطابها وأصبحت عائقا أمام أغلب الأوراش الإصلاحية والتنموية. وهذا ما تؤكده اليوم كل التقارير الوطنية والدولية بل كان موضوع انتقاد من طرف أعلى سلطة في البلاد.
وللأسف نسجل أن أغلب محاولات الإصلاح التي تمّ القيام بها لم يكن لها سوى أثر محدود جدّا، وهذا هو سبب استمرار الإستياء العامّ للمواطنين من الخدمات التي تقدمها أغلب المرافق العمومية إلاّ بعض الإستثناءات التي لا يمكن القياس عليها.
صورة سلبية وإحباط عميق
ليس هناك عتاب فقط على الإدارة، بل هناك صورة سلبية وإحباط عميق لدى أغلب المغاربة (مواطنين وفاعلين) عن الإدارة، وتوجد قناعة مشتركة لدى أغلبهم مفادها أن الإدارة والقطاعات العمومية والمرافق العامة لا تؤدي وظيفتها، وهذا ما نتج عنه أزمة الثّقة في الفعل العمومي وإزاء الدولة. وهناك عدد كثير من الإنتقادات التي توجّه للإدارة والمرافق العمومية(البيروقراطية، الفساد، المحسوبية، الزبونية، انعدام الشفافية،عدم المساواة وعدم تنفيذ الأحكام القضائية....). ولا يمكن وضع قائمة كاملة بشأنها. ولقد سبق للملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة للبرلمان (14 أكتوبر 2016)، أن وجه انتقادات لاذعة للإدارة وقد خصّص هذا الخطاب لتشخيص واقع الإدارة المغربية والوقوف على أعطابها التي تؤثّر سلباً على مسيرة التّنمية والتّقدّم الإقتصادي المنشودين، كما وضح الخطاب منطلقات الإصلاح الضّرورية.
كما أن هناك عددا كبيرا من التقارير التي أنجزت حول واقع وأعطاب الإدارة والمرافق العمومية وقدمت توصيات مهمة، كتقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والتقرير الأخير للجنة النموذج التنموي، وتقارير مؤسسة الوسيط، والهيئة الوطنية للنّزاهة والوقاية من الرّشوة ومحاربتها، والمجلس الأعلى للحسابات وتقارير مؤسسات دولية، والتي تجمع كلها على أعطاب الإدارة المغربية وتدعو كلّها إلى ضرورة تسريع إصلاحها والرّفع من فعاليتها لتكون رافعة للتنمية. وآخر هذه التقارير هو تقرير لجنة النموذج التنموي الذي أكد على أنّه يتعين على الإدارة أن تقوم بمهمتها الأساسية المتمثّلة في خدمة المواطنين، وذلك من خلال تطوير نظرتها إلى المواطن، من شخص خاضع للإدارة مغلوب على أمره إلى مرتفق ملزم بالضّريبة يستحق خدمات ذات جودة عاليةوتحترم كرامته، وذلك من خلال عدة مداخل من قبيل تبسيط الإجراءات والمزيد من الإنصات والقرب من المواطنين والفاعلين الخواصّ وتحسين الشفافية وتعميم الولوج إلى المعلومات والمعطيات. كما يتعين توظيف الرّقمنة في أعمال التتبع والتقييم وقياس جودة الخدمات المقدمة للمواطن وفي تحسين طرق تواصل الإدارة من أجل تعزيز الشّفافية والولوج إلى المعطيات ذات الصلة بالشأن العام. ويتعين أن يكفل حقّ التّظلم للمواطن في حالة نزاع أو عدم الرضا عن الخدمات التي تقدمها الإدارة. وفي نفس السياق، يستوجب تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين أن تركز الإدارة على المهام الأساسية المتعلقة بالسّير الجيد لكل القطاعات الإقتصادية والإجتماعية، والتي تكمن في وضع الإستراتيجيات والسّياسات العمومية وتتبعها، وضبطها، والعمل تدريجيا على إسناد المهامّ العمومية المتعلقة بالتنفيذ لبنيات مستقلة أو تفويضها وفقا لمقاربة تعاقدية. كما أن من شأن تحسين طرق تواصل الإدارة إضفاء شفافية أكبر على تدخلاتها في نظر المواطن وضمان توسيع مجال الولوج إلى المعلومة من قبل المواطن ووسائل الإعلام والمجتمع المدني.
انتظارات قوامها مرافق عمومية فعّالة
حقيقة هناك انتظارات قوية لدى المواطنين في وجود مرافق عمومية فعّالة وتحترم كرامتهم وتضمن حقّهم في المعلومة والمساواة في الولوج إليها ويكون لها أثر حقيقي على معيشهم اليومي. وهذا ما يستدعي تغييرات فعلية وحقيقيّة ذات أثر سريع على حياتهم اليومية. لذلك لابد من إعداد سياسة عمومية تهدف إلى تحسين علاقة الإدارة بالمواطنين والمرتفقين، وكذا تدبير الخدمات المقدّمة بجعلها في المتناول، دون عوائق أو صعوبات، في شروط من السّرعة والإستقبال، والإحترام والمساواة، والأخلاقيات، والشفافية، وتعتبر هذه الأهداف من الأولويات التي لا محيد عنها، والأساس الذي يمكن أن تبنى عليه حكامة “جيّدة” للمرافق العموميّة، كما أكد على ذلك المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي منذ عشر سنوات في تقريره حول حكامة المرافق العمومية، وكرّره تقرير لجنة النموذج التنموي.
هشام مدعشا، جامعي مختصّ في علم السّياسة والقانون العامّ