قالت الخبيرة الإقتصادية عائشة العلوي إن «الوضعية الحالية للمغرب لا تعزى فقط إلى العوامل الخارجية، بل للبنية الإقتصادية التي يطبعها الهشاشة والتبعية، وكذا لسيطرة الاقتصاديات الخفية على بنيته، أي اقتصاد الريع واقتصاد الظل والاقتصاد غير المهيكل؛ وكلها اقتصاديات تنتعش وتزدهر في ظل الأزمات، حيث إنها تجد الظرفية المناسبة لتعمق من هشاشة البنية الاقتصادية.
وشدّدت الخبيرة الاقتصادية العلوي على أن «انتعاش مثل هذه الاقتصاديات في المغرب خاصة في الأوان الأخير لغياب إرادة سياسية للحد من انتشارها واتساع مجالات تدخلها يساعد على فهم ارتفاع الأسعار الغير المعقولة والغير المنطقية لبعض المواد مع أنّ هناك تراجع أسعارها على المستوى العالمي»
وسارت الخبيرة الاقتصادية العلوي في حوارها مع "أنفاس بريس"، إلى أنه «لا يجب الخلط بين منطق تسيير المقاولة وتسيير الدولة لمعالجة الأوضاع والأوجاع في بلدنا. وفي ما يلي نص الحوار مع الخبيرة الاقتصادية عائشة العلوي.
بم تفسرين التنامي غير المسبوق والإرتفاع المهول للأسعار في المغرب؟
يمكن أن نجد تفسير ارتفاع الأسعار في تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية على أثمنة المواد الأساسية المتعلقة بالاستهلاك والإنتاج، حيث تعد روسيا وأوكرانيا كإحدى أهم الدول المصدرة للنفط والغاز والحبوب في العالم؛ لذا الحرب أثرت بشكل مباشر على أثمنة السلع التي عرفت ارتفاعا مهولا. وكذا، العقوبات التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها على روسيا كان لها تأثير على إمدادات سلاسل الإنتاج العالمية، لينضاف إلى تلك سياسة «صفر كوفيد» التي شنتها الصين؛ كل هذا يؤثر، بالطبع، على اقتصاديات الدول خاصة الدول الافريقية ومن بينها المغرب. بيد أن حدة هذا التأثير تبقى رهينا بالبنية الاقتصادية للدولة. كما نعلم الاقتصاد المغربي له مكان القوة التي تكمن على الخصوص في توفره على الموارد الطبيعية وأراض خصبة للزراعة، وله مكامن الضعف الذي تتمثل بالأساس في التبعية الاقتصادية والطاقية والمناخية.
كما يجب ألا نغفل بأن المغرب قد مرّ بظروف استثنائية من جرّاءِ الأزمة الوبائية، بحيث كان لها تداعيات على المستوى الإنتاج. لقد عرفت زمن كوفيد 19 الإغلاق الشبه الكلي للعملية الإنتاجية، وهذا بالطبع أثر سلب على الدخل الوطني للدولة وعلى الدخل الفردي وساهم في الرفع من معدلات البطالة والزيادة في عدد المهمشين والمهمشات والفقراء والفقيرات.
للإشارة، يجب أن نفرق بين ارتفاع الأسعار وبين الركود التضخمي. ارتفاع الأسعار يكون نتيجة الزيادة في أثمنة بعض المواد، وذلك لخلل بين العرض والطلب، بينما الركود التضخمي يعني التضخم المصاحب بتباطؤ في معدل النمو الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة، وهي ظرفية جد صعبة وحرجة؛ وهذا ما يميز الحالة الاقتصادية الحالية. وفي غياب اجراءات أو سياسة اقتصادية ناجعة للتصدي لمثل هذه الظرفية، فإنه يمكن أن يدخل الاقتصاد في زمن انكماش طويل الأمد قد يمتد ما بين 5 الى 10 سنوات؛ مما قد تترتب مآس اجتماعية واقتصادية وأزمات سياسية محفوفة بالخطر.
من جهة أخرى، الوضعية الحالية للمغرب لا تعزى فقط إلى العوامل الخارجية بل أيضا -كما ذكرت سابقا - للبنية الاقتصادية التي يطبعها الهشاشة والتبعية، وكذا لسيطرة الاقتصاديات الخفية على بنيته، أي اقتصاد الريع واقتصاد الظل والاقتصاد غير المهيكل؛ وكلها اقتصاديات تنتعش وتزدهر في ظل الأزمات، حيث إنها تجد الظرفية المناسبة لتعمق من هشاشة البنية الاقتصادية. إن انتعاش مثل هذه الاقتصاديات في المغرب خاصة في الآونة الأخيرة لغياب إرادة سياسية للحد من انتشارها واتساع مجالات تدخلها يساعد على فهم ارتفاع الأسعار الغير المعقولة والغير المنطقية لبعض المواد مع أنّ هناك تراجع أسعارها على المستوى العالمي.
هناك من يرى أن الحكومة عجزت بقيادة رجل أعمال نجح في تدبير شركاته وفشل في تدبير الوضع الاقتصادي للمغاربة. ما تعليقك؟
يصعب التعليق على هذا الأمر لأنه أمر في غاية التعقيد. سأحاول بإيجاز توضيح الأمر.
أولا، علينا إعادة طرح سؤال العلاقة بين الإقتصاد والسياسة خصوصا بعد انهيار جدار برلين. هل السياسة هي الموجه للاقتصاد أم العكس، أي الاقتصاد هو الموجه للسياسة؟ أم أن العلاقة أصبحت تطبعها علاقة هيمنة، حيث أصبح الاقتصاد هو المسيطر على السياسة.
في اعتقادي، أصبح الإقتصاد هو الموجه والمهيمن على السياسة؛ وهذا يتجلى بوضوح في سياسات العديد من الدول وفيها الدول المتقدمة والديمقراطية مع بعض الفوارق، أي إن هذه الدول لا زالت تتميز بفعلية مؤسسات المراقبة والمحاسبة، التي تمكنها من الحفاظ على مسافة الأمان بين الاقتصاد والسياسة، مما يجعل تأثير الاقتصاد محدودا أو شبه محدود على الممارسة السياسية. بينما في المغرب، أصبح الاقتصاد يهيمن بقوة على السياسة، وأصبحت معه الدولة تلعب أدوارا ثانوية خصوصا مع تحمل رجال ونساء الأعمال مهام تسيير مؤسساتها. والنتيجة الحتمية لهذا الانتقال هو «تفشي» منطق الفردانية والربحية والعلاقات الريعية داخل الدولة ومؤسساتها، وهذا بالطبع يتنافى مع أهداف الدولة.
ثانيا، لا يجب الخلط بين منطق تسيير المقاولة وتسيير الدولة. يطبع منطق الأولى الظرفية والبحث عن الربح السريع والقيام بالمخاطر، بينما يطبع منطق الثانية المصلحة العامة والديمومة، حيث إنها لا يمكن المجازفة. عندما تتعرض المقاولة للخسائر فإنها يمكن أن تغير من نشاطها الإقتصادي ومن مكان إقامتها، بينما الدولة فإن عليها الإستمرار في الزمان وفي المكان؛ كما عليها أن تحمي الجغرافيا والتاريخ والعلم والنشيد الوطني والشعب. لذا، نجاح شخص في تسيير المقاولة لا يؤدي بالضرورة إلى نجاحه في تسيير الحكومة ومؤسساتها، والعكس غير صحيح؛ نجاح شخص في تسيير الحكومة ومؤسساتها لا يؤدي بالضرورة إلى نجاحه في تسيير المقاولة؛ لكل مؤسسة رهاناتها وإشكالياتها.
تتوفر الحكومة على خبراء ودراسات توقّعية واستشرافية غير أن المغاربة لا يملسون ذلك في حياتهم اليومية أمام الغلاء وارتفاع كلفة العيش. كيف تفسرين ذلك؟
هذا السؤال له علاقة بالسؤال السابق، حيث إن المستوى الدراسي والشهادات المحصل عليها من طرف مسؤول(ة) حكومي(ة) ليس بالضرورة يؤدي إلى نتائج إيجابية ملموسة على الشعب المغربي.
بالإضافة إلى الحصول على شهادة جامعية أو دراسية للتمكن من فهم وتسيير الشأن العام، على المسؤول(ة) أن يكون على اضطلاع بالمعيش اليومي للمغاربة والمغربيات، وعلى دراية بما يحتاجون ويحتجن إليه؛ أي عليه (ها) أن (ت) يتوفر على الخبرة في كلما يمكن من فهم الحياة اليومية للمواطنين والمواطنات. المسؤول(ة) الذي (التي) لا (ت) يعرف ماذا يوجد في (القفّة اليومية) للمواطن المغربي وللمواطنة المغربية لا يمكنه (ا) اتخاذ الإجراءات الملموسة للخروج من الأزمات خصوصا في ظل الأزمة الحالية التي تعرف ارتفاع غير مسبوق لأثمنة المواد الغذائية الأساسية، الذي يضغط على دخل المواطن (ة) المغربي (ة).
من جهة أخرى، نجد أن هناك غياب التواصل بين المسؤول (ة) والمواطن (ة). مهما كانت جدية وفعالية ومصداقية المسؤول (ة)، يشكل الحوار والتواصل أهمية قصوى في تحقيق أهداف التنمية، بدونهما يصبح المسؤول (ة) غير قادر على تنزيل أو إنجاز أهداف مؤسسته وإشراك كافة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وأيضا المواطن (ة) العادي (ة).
مهما كانت الشواهد المحصل عليها، يعجز معظم المسؤولين (ات) على إشراك أو الاهتمام بالمواطن (ة) لأنهم (ن) في عجز عن التواصل معه (ها). الشهادة لا تعني الكفاءة.
هذا الوضع سيؤدي للإحتقان الإجتماعي وله كلفة أمنية. ما قراءتك؟
ما بين الأمن الاجتماعي والإحتقان الإجتماعي أو ما بين السلم الإجتماعي والإحتقان الإجتماعي خطّ رفيع جدا وهو الذي يشكل صمام الأمان بين الإنتقال من الأمن إلى الإحتقان ألا وهو الحوار، وهي الآلية التي تغيب ويحل محلها الشب والصب.
المواطن (ة) ليس غبي (ة)، علينا احترام مختلف الذكاءات التي تتأثر مع الرقمنة والثورة التكنولوجية. قد يصبح من السهل استبدال المعلومة المراد الحصول عليها من المصدر الرسمي بتلك الذي ينتجها مصادر مختلفة أخرى حتى تلك الذي يخدم أجندات خارجية معينة.
يعي المواطن (ة) تماما بأن هناك من يستفيد من هذه الوضعية الاقتصادية المتأزمة، إنه يعلم من يستفيد ماديا، ومن تدهورت ظروفه الاجتماعية والمادية. إنه يعلم بأن الأغلبية الساحقة أصبحت تعيش في ظروف اقتصادية جد مزرية، ألقت بها إلى مزيد من الهشاشة والفقر. بالطبع، هذه الوضعية يمكن أن يكون لها كلفة أمنية كبيرة خاصة مع التراجع الكبير في منسوب الثقة وفي حقوق الانسان.
ملف حقوق الإنسان مهم جدا. لا يهمنا ما يقوله الآخرون (الأعداء أو الأصدقاء)، لكن كما يقول المثل الشعبي (أهل مكة أدرى بشعابها). نحن نعرف وضعيتنا، ونعرف رهاناتنا، ونعرف التراجع الذي عرفه ملف حقوق الانسان، ونعرف تراجع الأحزاب والنقابات في تأطير الشباب، ونعرف التضييق على العمل الجمعوي، ونعرف مستوى انخفاض منسوب الثقة ومستوى ارتفاع الضغط الإقتصادي على الأسر المغربية، (ونعرف...) لذا هناك احتمال كبير أن تؤدي هذه الوضعية إلى احتقان اجتماعي الذي قد يزداد (مع مرور الوقت) إذا لم تكن هناك سياسات مواكبة خصوصا وأننا مقبلين على شهر رمضان وما يليها من مناسبات دينية، وما يصاحبها من ضغط على ميزانية الأسر. الخوف من هذا الوضع المأزم هو بروز بعض الظواهر الاجتماعية-الإجرامية الخطيرة كتلك الذي اندلعت في بعض الأسواق المغربية (على سبيل المثال الدار البيضاء والقنيطرة). وبذلك، تعم الفوضى، و«الفوضى» أشد من الحرب) أو تندلع انتفاضات شعبية دون تأطير خصوصا في غياب المعارضة أو النقابات أو غيرها.
بالمقابل، هناك عدة مخاطر وتهديدات (إقليمية ودولية)، إذ علينا أن نكون يقظين ولا نستهين بما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية المزرية للعديد من الأسر المغربية خصوصا الشباب وبعد فئات النساء كالعاملات في المقاولات غير المهيكلة والقطاع الفلاحي. هذا القطاع الذي يعاني آثار الجفاف وما يسببه من ارتفاع في نسبة البطالة في صفوف العاملات الزراعيات وانخفاض دخل الفلاح الصغير.
أخيرا، علينا أن نبقى متفائلين (ات) لأن هناك نخبة مغربية غيورة على مستقبل البلد، قادرة على مناقشة القضايا بكل جدية ومسؤولية وجرأة بدل النقاشات الفضفاضة الذي تنامت في الفترة الأخيرة، المطبوعة بمواقف وتحليلات مسطحة وأحيانا مغلوطة، لا تعالج عمق الإشكالات البنيوية للمغرب.