mercredi 14 mai 2025
سياسة

حرب أوكرانيا..موقف المغرب رسالة لمن لم يستوعب بعد أن مغرب اليوم مستقل في قراره

حرب أوكرانيا..موقف المغرب رسالة  لمن لم يستوعب بعد أن مغرب اليوم مستقل في قراره كشفت الحرب الروسية الأوكرانية قصة نجاح مغربي آخر على المستوى الدولي
ما يحدث اليوم بين روسيا وأوكرانيا أكبر من حرب بين دولتين، وأعقد من أن يختلف حول تسميته بالغزو أو التحرير أو العملية العسكرية. هو حدث يتعدى أطرافه المباشرة وأهدافه المعلنة من هذا الطرف أو ذلك. هو محاولة لإعادة رسم خريطة العالم، وهو "تمرد" صريح على تمدد غربي نحو الشرق يرى فيه الروس خطرا وجوديا وتهديدا استراتيجيا لما تبقى من قوة لديهم ونكثا للوعود التي قدمت لهم من طرف حلف الناتو في تسعينيات القرن الماضي، وهو بالمقابل، من وجهة نظر الأوكرانيين، وصاية روسية عليهم وتحكم غير مبرر في مصير دولة مستقلة اختارت الانضمام إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوربي، وهو في نظر الأمريكان والأوربيين مناسبة لمزيد من إخضاع الدب الروسي وإضعافه بعد سلسلة الانتصارات التي حققها في قضايا أخرى على الغرب، وخاصة في سوريا وافريقيا.
نتذكر تلك المقولة التي ملأت كل الفضاءات التحليلية منذ سنتين بأن ما بعد كورونا لن يكون كما قبلها. ها نحن نعيش أولى التحولات البنيوية لزمن ما بعد كورونا، حيث الكل يطمح في تغيير موازين القوى وخريطة التحالفات، والقوى الكبرى تختبر بعضها البعض ووحدهم الضعفاء فئران تجارب أو بيادق لحروب الكبار.
لا ينظر الأوربيون بعين الرضى للتمدد الروسي، وخاصة حين يقترن بنظرة دونية من طرف بوتين للأوربيين، وقد لاحظنا كيف يتعامل مع قادة أوربيين مثل ماكرون، الذي يتولى الرئاسة الدورية للاتحاد، كتلميذ يخرق في حضرته كل قواعد البروتوكول ويحرص على التنقيص منه أمام الرأي العام، ولكن أغلبهم أسير لروسيا لأنها تملك أوراق ضغط يمكنها زعزعة استقرار دولهم، بدءا بملف الطاقة ومرورا بملف الحبوب والاستثمار وانتهاء بملف الأمن.
ماكرون المضطر للتحاور الدائم مع بوتين يخرج بعد كل تواصل بخفي حنين وكأن بوتين يتعمد إذلاله ويحرص على عدم تمكينه من أي دور للوساطة حتى لا يقدم له خدمة انتخابية هو في أمس الحاجة إليها في الرئاسيات الفرنسية التي لم يعد يفصل بيننا وبينها سوى شهر.
وحدها أمريكا تبدو المستفيد الأكبر من حرب لا تدور رحاها بجوار ترابها، والرابح الأكبر من إضعاف كل أطراف هذه الحرب التي ستؤدي جميعها فاتورة مضاعفة تجعلها تحت رحمة أمريكا كما كان الشأن بعد الحرب العالمية الثانية. ها هو التاريخ قد يعيد نفسه في نسخة أسوأ من سابقتها، وها هي أوربا قد تحتاج لمشروع مارشال جديد إن توسعت رقعة الحرب أكثر.
أمام هذه الأوضاع الغامضة والصراعات الكبيرة، وأمام هذه الحسابات الخفية والمتناقضة، وأمام هذه التداعيات المحتملة لا يمكن إلا مباركة موقف المغرب الذي انتصر للموقف المبدئي والبعد الإنساني ممتثلا لميثاق الأمم المتحدة. لقد فضل المغرب مصالح الشعوب التي ستكون أكبر متضرر من حرب لن تنتهي بمنتصر أو منهزم لأن الجميع منهزم بالتأكيد ولكن الشعوب ستدفع الثمن الباهظ. موقف المغرب رسالة أخرى لكل من لم يستوعب بعد أن مغرب اليوم مستقل في قراره وحر في اختياراته ولا يستحضر إلا مصالحه. وهذا الموقف هو المحصلة الأولى لثمار سياسة تنويع الشركاء وعدم رهن نفسه لتكتل على حساب آخر. قد لا يعجب هذا الموقف "الحيادي الإيجابي" كل الأطراف لأنه لم يكن في حالة تماهي معها، ولكنه في العمق سيُكسب المغرب الاحترام لأنه موقف حكيم لم يبن على تحليل سطحي ويؤكد أن صانعه على دراية بخفايا هذه الحرب وأبعادها الاستراتيجية ولا يبحث عن الاسترزاق السياسي اللحظي بقضايا مصيرية.
لا شك أن المتابعين المتخصصين يستخلصون من هذه المواقف الشيء الكثير، ولكنهم حتما سيتوقفون، بخصوص المغرب، عند الطابع السيادي للموقف المغربي، وسيتأكدون مرة أخرى بأن مواقف المغرب تمليها مصالحه وعقيدته الدبلوماسية الراسخة التي تنتصر لسياسة النأي بالنفس عن صراعات تخفي حقائق لو علمها من ينتقد المغرب اليوم لما أبدع موقفا مخالفا لما تنهجه الدبلوماسية المغربية.
كعادتهم، ينتصب بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي محللين بدون أدوات، ولهؤلاء عذرهم طالما أن هذه المواقع صارت متنفسا ومفتوحة لآراء الجميع كما كان الشأن دائما في جلسات المقاهي و"راس الدرب". وكعادتهم كذلك، وهذا هو غير المقبول، يريد بعض الطوابرية والسمايرية الركوب على هذه الموجة دون إعطاء بديل حقيقي. غياب المغرب عن جلسة التصويت في الجمعية العامة مؤشر ضعف لدى هؤلاء وهو يتنافى مع التبشير الرسمي بقوة الدبلوماسية المغربية. في عرف هؤلاء، تصبح قاعات الأمم المتحدة مثل ساحات ملاكمة أو منصات خطابة المنتصرُ فيها هو صاحب الصوت الأعلى أو من يوجه اللكمات. هذا أكبر مؤشر على أن الطوابرية هواة فقط، ولا يفقهون في العمل الدبلوماسي شيئا. في مثل هذه اللحظات تقاس المواقف بميزان الذهب ولا هامش للأخطاء الصغيرة التي تكون تداعياتها وخيمة على البلاد كلها. يتناسى الطوابرية أن موقف الجزائر وجنوب افريقيا وكوبا ونيكاراغوا وإيران والصين والهند وافريقيا الوسطى ومالي المقربين من روسيا كان هو الامتناع، وهو الموقف الذي قد لا يضر روسيا ولكنه بالتأكيد ليس في صالحها. الدول الخمس التي صوتت لصالح الروس هي روسيا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وإريتريا وسوريا. هل يقترح الطوابرية على المغاربة تصويتا ضد القرار ولصالح الروس باعتراضهم هذا على الموقف المغربي الرسمي؟ لماذا لا يفصحون عن موقف واضح إذن؟ هل يمكن أن يكون المغرب أكثر "رَوسَنَةً" من دول كالجزائر وكوبا وإيران؟ هذا الاعتراض بهذه الحجج كاف لفضح هؤلاء الطوابرية وكشف أن مصلحة المغرب لا تهمهم.
هل يريد الطوابرية من المغرب التصويت لصالح القرار الذي طرحه الاتحاد الأوربي بالتنسيق مع أوكرانيا، والذي "يستنكر بأشد العبارات العدوان الروسي على أوكرانيا" ويؤكد "التمسك بسيادة واستقلال ووحدة أراضي أوكرانيا بما فيها مياهها الإقليمية"، ويطالب موسكو بأن "تسحب على نحو فوري وكامل وغير مشروط جميع قواتها العسكرية" من أوكرانيا؟ لا شك أنهم حينها سيستنكرون موقف المغرب التبعي للاتحاد الأوربي وغير المستقل والذي يستعدي بشكل مجاني قوة عظمى مثل روسيا!
يتناسى الطوابرية موقف المغرب الصارم الذي أعلنه مباشرة بعد انطلاق الحرب على أوكرانيا والذي أعلن فيه بوضوح تشبثه القوي باحترام الوحدة الترابية والسيادة والوحدة الوطنية لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وحرصه الدائم على تشجيع عدم اللجوء إلى القوة لتسوية الخلافات بين الدول، ودعوته إلى مواصلة وتكثيف الحوار والتفاوض بين الأطراف من أجل وضع حد لهذا النزاع، وتشجيع جميع المبادرات والإجراءات لتحقيق هذه الغاية. ويتناسى الطوابرية انخراط المغرب في كل المبادرات الإنسانية ومنها تقديم مساهمة مالية للجهود الإنسانية للأمم المتحدة والبلدان المجاورة، كما كان المغرب صريحا في التعبير عن أنه يتعين على أعضاء الأمم المتحدة تسوية خلافاتهم عبر الوسائل السلمية، وبموجب مبادئ القانون الدولي من أجل الحفاظ على الأمن والسلم العالميين. ويتناسى الطوابرية أن هذا الموقف ليس هروبا ولكنه تقدير سياسي يتحمل فيه المغرب مسؤولية عدم إرضاء بعض الجهات التي تشتغل في هذه الحرب بمنطق " من ليس معنا فهو ضدنا"، ولكن رغم ذلك ينتصر المغرب لقيمه وعقيدته التي راكمها على مر عقود من الزمن وليس من مصلحته تغييرها أو التراجع عنها. فماذا يقترح الطوابرية بديلا؟ لا شيء طبعا إلا معاكسة مصلحة المغرب والمغاربة ظنا منهم أن توتر الأشياء قد يفضي إلى انفراج يحلمون به ولم يتحقق ولن يتحقق.
القضية الثانية التي يحاول الطوابرية الركوب عليها هي قضية المغاربة العالقين في أوكرانيا. يتناسى هؤلاء عمدا بلاغ وزارة الخارجية المبكر، صدر يوم 12 فبراير، الذي دعا فيه المغاربة المتواجدين في أوكرانيا إلى مغادرتها حرصا على سلامتهم عبر الرحلات الجوية التجارية المتوفرة. وهذه في حد ذاتها يقظة استباقية تُحيَّى عليها الدبلوماسية المغربية وخاصة إذا أضيف لها الطواقم القنصلية التي واصلت الليل بالنهار لتأمين التواصل مع المغاربة وهو ما أفضى إلى ترحيل المئات من المغاربة. لماذا يتجاهل الطوابرية كل هذه الجهود؟ هل يعون حجم هذا الإنجاز؟ لماذا لا يطرحون سبب عدم التحاق باقي العالقين حينها ببلادهم؟
رغم التحذير المبكر واصلت الإدارات القنصلية عملها في أوكرانيا وعلى الحدود لتأمين سلامة المغاربة العالقين وتسهيل عملية عبورهم أوكرانيا في ظروف آمنة مع توفير "لارام" لرحلات بأثمان رمزية. هل باستطاعة من يزايد على المغرب عقد مقارنة بين ما قام به من أجل المغاربة العالقين مع ما قامت به دول أخرى مشابهة له؟
لقد كشفت هذه الأزمة أن المغرب أحرص على أبنائه ومواطنيه، وعلى أن موظفي السفارات متجندون لخدمة توجيهات الدولة، وهذا ما يفهمه المغاربة بعيدا عن ضوضاء وتشويش الطوابرية الذين لا يعجبهم العجب.
وكشفت هذه الأزمة كذلك قصة نجاح مغربي آخر على المستوى الدولي رأى فيها الملاحظون الموضوعيون قدرة المغرب واستقلاليته وصواب خياراته الدولية المبنية على تنويع شركائه وعدم رهن سياساته بطرف على حساب آخر.
 
عن موقع "شوف تيفي"