على هامش انتخاب الدكتور الحبيب المالكي رئيسا لمؤسسة المهرجان السينمائي الدولي لافريقيا بخريبكة خلفا للفقيد نور الدين الصايل، ألقى الرئيس الجديد لمؤسسة مهرجان خريبكة كلمة بالمناسبة أمام المجلس الإداري منوها بالتركة الثقيلة وحجم المسؤولية المسندة إليها، لاسيما وأن الرئيس السابق يعد من أعلام السينما عربيا وإفريقيا ودوليا.
وفي ما يلي نص الكلمة:
"الإخوة أعضاء المجلس الإداري،
السيدات والسادة الحضورَ الكرام،
أيها الأصدقاء،
شَرَّفَني الإخوة في مؤسسة مهرجان السينما الإفريقية في خريبكة بأن أتحمل مسؤولية رئاسة هذه المؤسسة الثقافية الوازنة، وذلك خَلَفاً لخير سَلَفٍ. وليس سهلا
- بكل تأكيد – أن يشغل المرءُ موقعا سينمائيا في المغرب بعد أن شغَلَهُ الأخ الصديق العزيز نور الدين الصايل، الناقد السينمائي الكبير الذي فقده المغرب الثقافي في ظل زحف جائحة كورونا القاتلة؛ نور الدين الصايل رحمه الله الذي بصم الحقل السينمائي في المغرب بتفكيره وخطابه النقدي والنظري، بمبادراته الوطنية والكونية، بجرأته الجمالية والفلسفية والتعبيرية، وبكل روحه وكيانه وأفقه الإنساني الرحب.
وسَنَصونُ جميعاً لسّي نور الدين هذه الذاكرة الخِصبة، هذه الفكرة الحية التي استنبتها في سنة 1977 عندما كان رئيسا للجامعة الوطنية للأندية السينمائية في المغرب التي أسسها سنة 1973، كما نعرف، وظل يتحمَّل مسؤولية رئاستها إلى سنة 1983.
وكانت الفكرة رياديّةً بامتياز،قوية وجديدة ومُلهِمة.
وها هو مهرجان السينما الأفريقية في خريبݣة أصبح من أهم وأقدم المهرجانات السينمائية في القارة الأفريقية، التي تهتم بالسينما الأفريقية تحديدًا، وهذه هويتُه، شأنَ مهرجان فيسباكوFESPACO في واغادوغو- بُورْكينا فاسو، ومهرجان مدينة الأُقْصُر في مصر على سبيل المثال. وهو اليوم - لكي لا ننسى - أوّل وأقدم مهرجان سينمائي تم تأسيسُه في المغرب. ولذلك قيمة أساسية في تاريخنا الثقافي الوطني.
انطلق المهرجان في بداياته كمهرجان سينمائي مَرَّةً كلَّ سنَتيْن قبل أَن يصبح مهرجانًا سنويًّا، ليُشَكّل موعدًا أساسيًّا في أجندة السينمائيين الأفارقة والمهتمين بصناعة السينما في قارّتنا السمراء.
وقد بدأ المهرجان صغيرًا، لكن بفكرةٍ كبيرة، وعَانَى في بداياته من ضعف ومحدودية الإمكانيات المادية نظرًا للمنظور السائد آنذاك إلى الجامعة الوطنية للأندية السينمائية باعتبارها إحدى الجمعيات الثقافية التقدمية والديمقراطية بما يعنيه ذلك من رمزية ودلالات مخصوصة في تلك المراحل التأسيسية.
تأسست بعد ذلك (جمعية مهرجان السينما الأفريقية في خريبݣة) قبل أن تتحولَ في وقت لاحق إلى (مؤسسة خاصة بالمهرجان). وكَبُر المهرجان من دورة إلى أخرى، ووفَّر له المرحوم سي نور الدين إمكانيات وامتدادات إضافية، خصوصًا بعد أن أصبح يتحمل مسؤولية إِدارة المركز السينمائي المغربي.
وعليَّ أن أشير هنا إلى أن خطواتي تقاطعت مع خطوات الأخ الصديق العزيز المرحوم نور الدين الصايل في منتصف الستينيات، وكُنْتُ يومها من الشغوفين بالثقافة السينمائية، وبمتابعة وقراءة المجلاّت السينمائية الفرنسية بل وكان طموحي في مرحلة من مراحل تكويني أن أتابع دراساتي العليا في السينما، وكان هناك حُلْم يداعبني في بداياتي الأولى بأن أصبح ذات يوم مخرجا سينمائيا !
ثم فرَّقَت بيننا السُّبُل ، وإن بقيتُ ألتقي من حين لآخر بأخي نور الدين، وأتابع مساره الثقافي والفكري ونشاطه السينمائي الحيوي والمرجعي. والحقّ أنه ظل دائما صادقاً في اختياراته، منتصراً لقيم التحديث والدّمقرطة والعقلانية والتنوير، حريصا على زرع أُسُس الثقافة السينمائية في التربة المغربية بما هي ثقافة تؤسس للمستقبل، وتُوسِعُ المتخيَّل، وتجدد البنيات الذهنية والسوسيوثقافية في المغرب المعاصر.
كان نور الدين الصايل رحمه الله مثقفا مغربيا أصيلا وعميقا وملتزما بأخلاق المثقفين الكبار. ولم يكن ذلك غريبا على أحد قدماء تلاميذ ثانوية مولاي يوسف في الرباط التي كانت مدرسة للوطنية المغربية منذ تأسيسها، ولا على الطالب الـمُجِدّ الذكي في شعبة الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع بكلية الآداب بالرباط، وأحد الطلبة النابهين الذين ظل يذكرهم أستاذهم في علم النفس الاجتماعي، الأخ الأستاذ عبد الواحد الراضي، كلما تحدث عن ذاكرته كأستاذ جامعي : نور الدين الصايل، الطاهر بنجلون، أحمد حرزني، حسن بنعدّي، عبد الحي الديوري،ادريس المنصوري ... وآخرين.
ولذا، إذا تأملنا - بعمق وبهدوء - جذور الفكرة السينمائية الإفريقية واستنباتَها في خريبكة، المدينة والإقليم، سنجد أنها تشبه نور الدين الصايل. ومعنى ذلك، أن علينا جميعا، كلٌّ من موقعه، أن نصون الفكرة والإرث، والرصيد والقيمة المضافة، والرأسمال الرمزي الثقافي والحضاري الذي تركه نور الدين الصايل للحركة الثقافية المغربية، ولنا جميعا.
وكما تتوقعون، فإن السياق الراهن، السياسي والثقافي والاجتماعي، لا يمكنه إلا أن يعطي لفكرة المهرجان وللمهرجان ذاته وظائف جديدة من المنتظر أن ينهض بها، خصوصا بعد قرار صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله بعودة بلادنا إلى الاتحاد الإفريقي ؛ هذه العودة التي أرادها جلالة الملك قوية بالأفكار، بالمبادرات، بالمقترحات، بالمشاريع، وبالتوجهات الجريئة التي تقتحم الفضاء الإفريقي، وتعيد مدَّ الجسور وتجديد العلاقات، وبناء صداقات مثمرة في الثقافة والفكر والاقتصاد بل وفي مختلف الآفاق الاستراتيجية والجيوسياسية والإنسانية.
ولاشك أن المكانة الحضارية والثقافية والإبداعية، والسينمائية بالخصوص للقارة السمراء تظل دائما في حاجة إلى مثل هذا المهرجان، وفي حاجة إلى جميع المبادرات الثقافية الكبرى في كُلِّ مجالات التعبير الفني، فالقارة الأفريقية قارة لِلمُتَخَيَّل (L’imaginaire) بامتياز، المُتَخَيَّل الفنّي والأدبي والفكري والفلسفي والجَمَالي.
ورغم الإجحاف وعدم الاعتبار الغَرْبي أحيانا، فقد حازت قارتُنا عدة جوائز عالمية بما فيها جوائز نوبل في الآداب، وجوائز نوبل للسلام، وجوائز عالمية في السينما وفي الفنون أيضاً. كما تتوفر القارة على رصيد من كبار الشخصيات الإِنسانية التي لها مكانة دولية وصِيت كوني في مختلف الحقول العلمية، مما نستحضره باعتزاز.
وفي هذا السياق، ينبغي أن أستحضر معكم المكانة الاستراتيجية والاقتصادية للقارة الأفريقية راهنًا وفي المستقبل المنظور، كما تؤكد أهمّ الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية. والحمد لله أَن بُعْدَ النظر لدى صاحب الجلالة حفظه الله مَهَّدَ لعودة المغرب سِياسيًّا إلى المُنْتَظَم الأفريقي بخطوات وقرارات اقتصادية جريئة جدًّا جعلت من المملكة المغربية اليوم ثاني أكبر مستثمر في القارة. وبالتالي، علينا أن نُضَاعِف جهودنا بالعودة إِلى الفضاء الأفريقي بالمزيد من الحضور الاقتصادي والسياسي والثقافي والرياضي .... وغيره.
لذلك يمكن القول إِن وظائف ورهانات المهرجان اليوم، ومهام مؤسسة المهرجان أصبحت كبيرةً وجسيمة، ولابد من تضافُر كُلِّ الجهود الرَّسْمية والشعبية للمُضيِّ قُدُمًا في هذا التحدي الثقافي والرمزي والفني الكبير. فالحقل السينمائي الوطني في المغرب في حاجة حقيقية إلى مهرجانات متعددة لتعميق وإِشاعَةِ الوعي السينمائي. وبالتالي، فكل مهرجان يُنَظَّم في المغرب سواء كان يهتم بالسينما العالمية أو بالسينما العربية أو بالسينما الأفريقية أو بالسينما المتوسطية أو بِسينِما المُؤَلِّف أو سينما الهجرة أو بالفيلم الوثائقي أو بالفيلم التربوي أو غير ذلك يتكامل بالضرورة مع آفاق السينما الوطنية ويدعم صناعتنا السينمائية المغربية بالتأكيد.
من هنا، وبهذه الروح الجماعية التي توحّدنا اليوم، سأقتسم هذه المسؤولية الوطنية الجسيمة معكم، وبمساعدتكم، وكذا بالانفتاح على كافة الكفاءات الوطنية في المغرب وخارجه، فضلًا عن أصدقائنا من القارة الأفريقية ومن خارجها، وطبعا الانفتاح على الكفاءات الخيِّرة في خريبݣة، المدينة والإقليم، وفي جهتنا.
ومن هنا أيضا، ينبغي أن نُواصِلَ رسالةَ الأخ نور الدين الصايل رحمه الله، وهذا هو منتهى الوفاء لشخصه ولأفقه. كما ينبغي أن نُجدِّد ونطوِّر هذا المهرجان وآفاقَه وإشعاعَه ومكانَتَه في المغرب وفي أفريقيا، ولِمَ لا في العالم ؟
ولي اليقين أن هذا التوجه هو الذي سيُعَمِّق ارتباطنا بمهرجان السينما الإفريقية في خريبكة، ويحفزنا على البحث عن المزيد من الإمكانيات المادية والأدبية، وتجسير العلاقات مع مختلف المهرجانات والمؤسسات والفعاليات الوطنية والأجنبية التي تقتسم معنا هذا الشغف بالسينما الإفريقية، وبالفن السابع عموما باعتباره فنّاً حداثيا يعمق الوعي العام، ويغذي الفكر والوجدان، ويعمّم القيم الإنسانية الرفيعة.
لي اليقين أيضا أننا سنجد في صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله الرعاية الكريمة الحريصة على قوة نسقِنا الثقافي وتَمَيز النموذج الوطني المغربي.
ثم بالتأكيد سنجد كلّ الدعم من السلطات الجهوية والإقليمية والمحلية، والسلطات المنتخبة، ومؤسسات المجتمع المدني الحية، فضلا عن أسرة السينمائيين المغاربة الذين يقدّرون قيمة هذا المهرجان ومؤسسته وأطره المؤسِّسَة والفاعلة بإخلاص وصدق ونزاهة وعلى رأسهم الإخوة أعضاء الجمعية الذين تفضلوا مشكورين فاقترحوا عليَّ أن أتحمل هذه المسؤولية التي ليست سهلة، ولم يكن أمامي سوى الامتثال لنداء مدينة خريبكة ومهرجانها الدولي ونُخبها الثقافية والسينمائية والتربوية، آملا إن شاء الله تعالى أن نتوفَّق جميعا في أداء هذه الرسالة.