لحسن العسبي: الرياضة الوطنية لقتل الأمل بالمغرب

لحسن العسبي: الرياضة الوطنية لقتل الأمل بالمغرب لحسن العسبي
ما الذي يجمع بين حكام الصفوة (قضاة مباريات كرة القدم بالبطولات المغربية) وكوفيد؟
ظاهريا لاشئ، لأن السياقات مختلفة. لكن المعنى الثاوي في كلمة "فيروس" التي تحيل طبيعيا على اختلال في الوظائف سببه فساد يطال الجسد، بكل ما يوجبه ذلك من تدخل للعلاج، هو الذي يجمع بينهما ضمنيا.
إن ما يسجل، منذ أسابيع، ضمن المشهد العمومي للمغرب والمغاربة، الحاضرة علاماته على مستوى مختلف مجالات التعبير التواصلية، المؤسساتية (من صحافة وإعلام) والشعبية (من وسائط التواصل الإجتماعية)، هو ارتفاع تيرموميتر علامات الإستفهام وأشكال النقد والإتهام ضد بعض حكام مباريات كرة القدم بالبطولة المغربية. بكل ما يستتبعه الأمر من ردود فعل شعبية بين عموم الجماهير الرياضية، ومن إسقاطات تأويلية تسيء لصورة لعبة الرياضة المغربية، يهتبلها البعض هنا وهناك فرصة للنكاية بصورة البلد في معناها القيمي العام (أتفهها الباثولوجيا المستفحلة مؤخرا في الإعلام الرسمي الجزائري. ومن بين أهمها بمهنية احترافية قنوات عالمية مثل البي بي سي البريطانية أو باين سبورت القطرية).
صحيح أن الخطأ إنساني، وهو وارد جدا في لعبة حية (تمارس ضمن ضغوط خاصة) مثل لعبة كرة القدم، لكن يخشى أن بعض حكام اللعبة مغربيا لا يستوعبون كما يجب المستوى القيمي لأدوارهم، الذي يرقى ليس فقط إلى مستوى قضاة المنافسة الرياضية المكلفون بإنفاذ القانون وحماية ممارستها من شطط اللاعبين (وألاعيبهم المندرجة ضمن تاحرميات ديال الكرة)، بل إلى مستوى المساهمة في صناعة صورة البلد ضمن مجال تواصلي جماهيري عالمي مماثل. وأنهم بالتالي، يصدرون عن مزاج أكثر مما يصدرون عن وعي بمستوى مسؤوليتهم رياضيا ووطنيا وقيميا. ولا يمكن إغفال أن ذلك يعكس في العمق أزمة في شكل تدبير لعبة رياضية شعبية مثل كرة القدم بالمغرب، من تجلياتها واقع التحكيم، الذي يبقى فيه الحكام الحلقة الأصعب (لأنهم هم من في واجهة المسرح أمام الأشهاد وأمام العالمين) وهم أيضا الحلقة الأضعف (لأنه واضح أنهم بدون تأطير يقوي مناعتهم التحكيمية). ولعل عمق أزمة التحكيم في رياضة كرة القدم المغربية، راجع إلى النظر إليه من الزاوية التقنية فقط، والحال أن الأمر أعمق وأعقد من ذلك بكثير.
إن المقاربة الحديثة (والعلمية) لمهنة التحكيم في كل المنافسات الرياضية، تقوم على أساس مرجعيات أكاديمية تستحضر البعد الحاسم للحكم كإنسان. وأنه أشبه بقاضي مستعجلات. وأن صناعته مهنيا توجب دفتر تحملات على مستوى التأطير تحضر فيه أبعاد التكوين السيكولوجي النفسي، والتكوين البدني الصحي (الفيزيولوجي)، والتكوين القانوني، ثم أيضا التكوين التواصلي والثقافي. نعم التكوين التواصلي والثقافي (حتى لا نقول التربوي الوطني). فالحكم لا يمثل نفسه على مسرح الأولمب وفوق بساط المستطيل الأخضر، بل إنه يمثل قيمة الجماعة التي ينتمي إليها، أي إنه يمثل صورة لبلده. بالتالي، يحق التساؤل هنا: هل حكامنا (نموذج السيد رضوان جيد المنفعل دوما والقلق والمتوتر، ونموذج السيد الداكي رداد الذي يترك انطباعا أنه لا ينصت سوى لصوته الداخلي المزاجي الخاص، ونموذج السيد سمير الكزاز المتصادم كثيرا مع اللاعبين) محميون فعلا؟. أو بصيغة أكثر دقة: هل هم مسلحون بما تفرضه مسؤولية أنهم قضاة التطبيق السليم لممارسة اللعبة قانونيا وأخلاقيا وتنافسيا؟.
إن مديرية التحكيم ضمن بنية تسيير اللعبة بالمغرب (الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم)، لا يجب أبدا أن تكون إدارة تقنية محضة، تسقط أحيانا في خرجاتها التواصلية والتقيمية في ردود الفعل بمنطق أنصر أخاك حتى في أخطائه. بل إن مسؤوليتها تفرض عليها أن تكون مؤسسة تربوية تكوينية بيداغوجية، تنتج نماذج لحكام مسلحين تقنيا ونفسيا وبدنيا وتواصليا وسلوكيا وثقافيا، ومحميين اجتماعيا وعلى مستوى حقوقهم المالية، حتى يدركوا أنهم يمثلون مهنة شريفة وراقية وأنهم أيضا يساهمون في نسج صورة لبلدهم أمام أبناء وطنهم وأمام العالمين. فالحكم اليوم في مرتبة سفير للمستوى القيمي السلوكي والأخلاقي للبلد الذي يحمل اسمه، على القدر نفسه الذي هو نموذج للتربية العمومية لمختلف الأجيال التي تتفرج على منجزه فوق المستطيل الأخضر (التربية على سمو القانون وعلى معنى النزاهة التي يمثلها القاضي الرياضي ببدلته السوداء). وإذا كان الشئ بالشئ يذكر، تحتفظ ذاكرة المغاربة باعتزاز بأسماء حكام نحتوا أسماءهم في لوحة الشرف قيميا، بقوة شخصيتهم التي ليست هي التوتر والنرفزة والصياح، بل هي الرصانة والأخلاق، من قبيل المرحوم عبد العلي الناصري والمرحوم سعيد بلقولة والأستاذ محمد الكزاز والأستاذ المحامي بوشعيب الأحرش والمربي عبد الرحيم العرجون والأسمراني عبد الله العشيري وغيرهم قليل، الذين بلغوا مستويات عالمية لم يعد التحكيم المغربي يبلغها اليوم للأسف.
في معنى رياضة قتل الأمل مغربيا
إن معنى طرحنا سؤالا فوق حول ما قد يجمع بين حكام لعبة كرة القدم بالمغرب وجائحة كوفيد، الغاية منه التساؤل عن هذا العمى (الذي نكاد نختص به مغربيا)، الذي يجعلنا أشبه بذلك الجمل في تلك الحكمة المغربية العتيقة التي تفيد أنه "كاع للي حرث جمل دكو".
لأنه مثير، بجد، التوازي بين واقع ما يرتكب من أخطاء مقرفة رياضيا على مستوى كرة القدم المغربية محليا (جرائم التحكيم جزء منها بارز تواصليا)، وبين ما يقع تدبيريا على مستوى ممارسة الشأن العام (حكوميا وجهويا ومحليا وجماعيا)، الذي هو على النقيض تماما من منجزين هائلين منحا لبلد إسمه المغرب صورة إيجابية عند العالم، هما منجز مقاومة جائحة كوفيد ومنجز فتية الإطار الوطني المربي والخلوق والذكي وليد الركراكي في نهائيات كأس العالم 2022 بقطر.
إن الروح المغربية التي تولدت عن المنجزين معا، كما لو أن هناك إصرارا على قتلها وعدم السماح لها بالتبرعم والنضوج والتوسع والإنتشار والرسوخ كخيار دائم للمستقبل. ذلك أن التصالح الذي تحقق بين المواطن المغربي ودولته خلال جائحة كوفيد، الذي كان سماده الأكبر عودة الثقة بينهما بدرجات عالية وسامية جدا، بفضل بروز معنى الدولة الحامية المتضامنة الراعية (الدولة الإجتماعية).. أن ذلك التصالح قد انتهجت منذ شهور سياسة عمومية تدبيرية (حكوميا بالمعنى المركزي ومحليا بالمعنى الجماعي الترابي)، تعمل على تجفيف كل أسباب تلك الثقة وذلك التصالح بين المواطن والدولة. الثقة التي هي السماد الأقوى لتعزيز صلابة جبهتنا الداخلية أمام تعاظم مخاطر محيطنا المغاربي (الجزائري) والإفريقي (منطقة الساحل) والمتوسطي. وما حدث ويحدث حكوميا على مستوى الصمم في معالجة فواتير الوقود وأثمنة المواد الغدائية وملف التقاعد وتدني الخدمات العمومية (بلديا وقرويا)، يكاد يجعل المريب يقول خذوني. مثلما أنه يطرح في العمق أزمة النخبة بالمغرب، التي أصبحت بطاريات السياسة عندها باردة، مقابل تعاظم للرؤية التقنية الحسابية. والحال أن قيادة البلدان تتم بالفطنة السياسية والتوقع الذكي لرجل السياسة المحصن بالسقف الوطني وليس بالحسابات المربعة للتقني.
مثلما يسجل أنه، بعد الروح المغربية المتفجرة التي أنضجها منجز مونديال قطر المغربي، هناك من يأخذ برقبة صورة بلد بكامله لتمريغها في وحل الفساد الرياضي (نموذج عدم الحسم في فضيحة تذاكر قطر، وواقع الأخطاء التسييرية والتحكيمية في مباريات كرة القدم المحلية بكل ما لذلك من إسقاطات سلبية على صورة البلد داخليا وخارجيا).
فهل هو قدر مغربي أن تكون رياضتنا الوطنية الكبرى، سلوكيا وقيميا، هي رياضة قتل الأمل؟.
كم هو قاس هذا السؤال وكم هومرعب.